بحث في بيع العربون
قال في المصباح ص401 : العربون بفتح العين والراء، قال بعضهم : هو أن يشتري الرجل شيئاً، أو يستأجره ،ويعطي بعض الثمن أو الأجرة، ثم يقول : إن تم العقد احتسبناه، وإلا فهو لك، ولا آخذه منك .
والعربون : وزن عصفور، لغة فيه، والعربان بالضم : لغة ثالثة ونونه أصلية .
وقال الأصمعي : العربون أعجمي معرب . ا.ه
وراجع اللسان ( 1 / 592 ) والنهاية ( 3 / 202 ) مهم .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم بيع العربون على قولين :
القول الأول :التحريم
وذهب إليه جمهور العلماء، واحتجوا بالأدلة التالية :
1ـ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى رسول الله عن بيع العربان . أخرجه مالك في الموطأ ( 2 / 609 )، وأبو داود ( 3502 )، وابن ماجة ( 2192 )، وأحمد ( 11 / 12 تحقيق شاكر ) وغيرهم .
2ـ قوله : لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع . رواه الخمسة .
قال الشوكاني : فاشتمل العربون على شرطين فاسدين .
قال في المسوى : قال المحلي : وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد والهبة إن لم يرض السلعة .ا.ه
3ـ قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .. الآية ))
قال القرطبي في تفسيره ( 5 / 150 ) : ومن أكل أموال الناس بالباطل بيع العربان .. فهذا لا يصلح، ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار، من الحجازيين، والعراقيين، لأنه من باب بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بالإجماع . ا.ه
4ـ أن في بيع العربان معنى الميسر، قاله الدهلوي في الحجة . ولعله يرجع إلى ما قبله .
5ـ أنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة ، كما لو قال : ولي الخيار، متى شئت رددت السلعة ومعها درهم .
وقالوا : ولا يصح أن يكون العربون مستحقاً للبائع كعوض عن انتظاره، وتأخر بيعه، لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار، كما في الإجارة . ( الشرح الكبير 3 / 59 ) .
القول الثاني : الجواز
ومما يقوي هذا الحديث أيضا أن قصة شراء عمر بن الخطاب داراً للسجن بمكة من صفوان بن أمية ـ قد اشتهرت بين أهل العلم، وبين من كتب في تاريخ مكة، مثل : الأزرقي، والفاكهي، وابن شبة، حتى إنها كانت موجودة في عصر الفاكهي، وكانت لا تزال سجن مكة، فليراجع، والله أعلم .
ثم إنهم قد أجابوا عن حديث النهي بتضعيفه، لعدم معرفة الثقة الذي روى عنه مالك، وهو مشهور من طريق ابن لهيعة رحمه الله .
وقد ضعفه الإمام أحمد بقوله عندما سئل عنه : ليس بشيء . نقله ابن القيم في البدائع ( 4 / 84 ) .
وضعفه البيهقي ( المعرفة 4 / 380 )، والنووي في المجموع ( 9 / 335 )، والمنذري في مختصر السنن ( عون 9 / 399 )، وابن حجر في التلخيص ( 3 / 17 )، والألباني في ضعيف الجامع الصغير ( 6073 )،
وفي المشكاة ( 2864 )، وقواه بمجموع طرقه الزرقاني في شرح الموطأ ( 3 / 250 )، والشوكاني في النيل ( 5 / 153 ) .
والأقرب ـ والله أعلم ـ هو ضعف هذا الحديث، وعدم انتهاضه للاحتجاج، خاصة أنه يدور على هذا المبهم، وكل من ذكر أهل العلم أنه هو المبهم فإنه إما يكون ضعيفاً، أو الطريق إليه لا تصح، فتأمل .
بقي أن يجاب عن علة تحريم بيع العربون عند من يحرمه، وهو أكل أموال الناس بالباطل، وانه من الميسر، وأن فيه غرراً وجهالة ..الخ .
فيقول الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في شرح البلوغ ص100 :" الجهالة في بيع العربون ليست جهالة ميسر، لأن جهالة الميسر يكون فيه المتعاملان بين الغنم والغرم، أما هذه فإن البائع ليس بغارم، بل البائع غانم، وغاية ما هنالك أن ترد إليه سلعته، ومن المعلوم أن المشتري لو شرط الخيار لنفسه مدة يوم أو يومين كان ذلك جائزاً، وبيع العربون يشبه شرط الخيار، إلا أنه يعطى للبائع جزء من الثمن إذا رد إليه السلعة، لأن قيمتها قد تنقص إذا علم الناس بهذا، ولو على سبيل التقديم، ففيه مصلحة .
وفيه أيضاً مصلحة للبائع من وجه آخر، أن المشتري إذا سلم العربون فإن في هذا دافع لتتميم البيعة .
وفيه كذلك مصلحة للمشتري، لأنه يكون بالخيار في رد السلعة إذا دفع العربون، بينما لو لم يدفعه للزمه البيع" . ا.هـ مختصراً
قلت : ومما يدل كذلك على أن فيه مصلحة راجحة، أن عدم اشتراطه قد يسبب خصومات ومفاسد كبيرة، خاصة في الاستصناع، حيث يصنع العامل للمشتري ما يريد، فيضمن العربون للعامل أخذ المشتري للبضاعة، ويضمن للمشتري عدم غش الصانع، أو بيعه البضاعة لغيره، أو هروبه عنه، ومماطلته في حال لو دفع الثمن كاملاً، وفي حالة عدم دفع أي شيء من المبلغ المتفق عليه، فأصبح العربون صمام أمان في كثير من المعاملات التجارية، إن لم يكن جميعها، ومعلوم تشوف الشارع الحكيم إلى مثل هذه الأمور التي تمنع الشحناء والبغضاء والغش في التعامل بين المسلمين ،وقد جرى على هذا العمل بين الناس، وقد قرر المجمع الفقهي المنعقد في دورته الثامنة من 1إلى 7 محرم 1414هـ ما يلي :
1ـ المراد ببيع العربون بيع السلعة، مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع، على أنه إذا أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع .
ويجري مجرى البيع والإجارة، لأنها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد ( السلم )، أو قبض البدلين ( مبادلة الأموال الربوية والصرف )، ولا يجري في المرابحة الأمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة .
2ـ يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء .ا.هـ
وقال السنهوري في كتابه مصادر الحق :
إن العربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع، وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع، فإن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار . ا.هـ
قلت : والأقرب ـ والله أعلم ـ هو الجواز، لأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولضعف حديث النهي، والله الموفق .
غير أنه لو احتاط المسلم لدينه، وطلب البراءة له، وتجنب التعامل بالعربون، لكان ذلك حسناً من باب التورع عن الشبهات والله أعلم .
.