فقاعة المسيسبي

الزاجل@2

عضو نشط
التسجيل
9 ديسمبر 2005
المشاركات
529
عالم لا يتعلم من أزماته 2/12: فقاعة المسيسبي
ألفا بيتا - د. محمد ابراهيم السقا 12/06/2010

فقاعة المسيسبي مثال آخر على نوع مختلف من الأزمات التي ارتكزت على الرغبة الحميمة في الثراء السريع المدفوع بادعاءات ليست قائمة على أساس من الواقع، أو ما يمكن أن نطلق عليه “ترويج الوهم”! ترويج الوهم خطة يمكن أن تنجح عندما نجد جمهورا لا يسأل نفسه عن مدى صحة ما يتم الترويج له، ربما لسبب بسيط هو أنه لا يرغب في أن يصدم بأن ما يتم الترويج له غير صحيح، فيندفع الجميع كالقطيع نحو الوهم، ليكتشفوا في النهاية أن نقطة المبتغى كانت ببساطة شديدة نوع من السراب. الشخص المسئول عن أزمة اليوم، أو على الأقل الذي قدم للعالم وأمام الكواليس على أنه المسئول الأول عنها، هو الاقتصادي الانجليزي “جون لو John Law”، والذي يعد أشهر شخص في تاريخ الأزمات المالية التي تعرض لها العالم قاطبة. ولد “جون لو” في اسكتلندا لأسرة تعمل في مجال المال، حيث كان والده جواهرجيا في أدنبرة، وفي عام 1694 قبض على “جون لو” بتهمة القتل وحكم عليه بالسجن، إلا أنه بعد فترة قصيرة استطاع الهرب من السجن، ويشاع أن ذلك قد تم بمباركة رسمية، لينتقل بعد ذلك “جون لو” في المنفى عبر قارة أوروبا، ولكنه استطاع أن يكون ثروة كبيرة من عمليات القمار، حيث يشاع أنه كان يملك عقلا فذا يمكنه من إجراء العمليات الحسابية اللازمة لحساب أوراق اللعب ومن ثم الفوز بالمقامرات في ألعاب الورق.

كانت الحروب التي أشعلها لويس الرابع عشر قد تركت فرنسا مفلسة اقتصاديا وماليا، وهو ما أدى إلى تراجع الكميات المتداولة من النقود المعدنية، الأمر الذي أدى لاحقا إلى تقييد عملية سك المزيد منها، وعندما قدم “جون لو” نفسه لفرنسا كانت قد بدأت بالفعل في التوقف عن سداد دينها القائم، وبدأت قيمة العملة الفرنسية في التراجع، بسبب حالة عدم التأكد حول مستقبل الدولة. في ظل هذه الأجواء، سلمت فرنسا نفسها إلى “جون لو” لكي يقدم الحلول المناسبة لتلك المشكلات، فقد قام “فيليب دو أورليانز″ الوصي على العرش في ذلك الوقت بتعيين “جون لو” في وظيفة المراقب العام للمالية الفرنسية، وبالفعل استطاع “جون لو” أن يأتي بفكرة تخلص المملكة من أعباء دينها العام. كان “جون لو” يعتقد أن العرض غير المستقر من الذهب والفضة هو السبب في تباطؤ الاقتصاد الفرنسي، وليس المشكلات الحقيقية التي تواجهها فرنسا، ومن ثم فإن المزيد من عرض النقود يمكن أن يشجع التجارة والنمو في فرنسا، وهي نفس الأفكار التي ترتكز عليها عمليات صناعة السياسة النقدية في عالم اليوم، وكان “جون لو” قد أصدر كتابا بعنوانMoney and Trade Considered ، وقد ضمنه مقترحا لكيفية إصدار النقود في صورة بنكنوت بدلا من النقود المعدنية، وذلك استنادا إلى أن النقود المعدنية غير مستقرة سواء من حيث الكم أو النوع، وأن إصدار النقود في صورة بنكنوت سوف يزيل القيود من على عاتق الاقتصاد.

في مايو 1716 تم منح “جون لو” حق إنشاء بنك أسمي “البنك الملكي Royal bank” برأس مال 6 مليون جنيها فرنسيا، كما منح الحق في إصدار الصكوك، والتي تم استخدامها بواسطة البنك لدفع النفقات الجارية للحكومة، وكانت هذه الصكوك قابلة للتحويل إلى ذهب، إذا أردا حاملها ذلك، مما هيأ القبول السريع لها، وقد تولى البنك استقبال المودعات في صورة عملات معدنية، ثم إصدار أوراق بنكنوت في مقابلها، وهي فكرة بدت غريبة في وقتها، غير أنها ستشكل لاحقا الأساس الذي ستقام عليها النظم النقدية في العالم أجمع. ساعد “جون لو” الحكومة الفرنسية في التحول نحو النقود الورقية، من خلال البنك الملكي، والذي طبق أفكار “جون لو” حول إصدار النقود الورقية، وكانت الآلية هي قبول الودائع بالعملات المعدنية، ثم إصدار أوراق بنكنوت تساوي في قيمتها العملات المعدنية يوم الإيداع، وعلى الرغم من أن البنك الملكي كان بنكا خاصا، إلا ان ثلاثة أرباع رأس ماله كان عبارة عن أذون وأوراق مقبولة من الحكومة.

مع تزايد رصيد الصكوك كانت هناك حاجة لدفع الفوائد عليها، وهو ما تم توفيره من الناحية العملية من خلال إنشاء شركة المسيسبي التي قام البنك الملكي بإنشائها، وعين “جون لو” مديرا عاما للشركة الجديدة، ومنحت الحكومة الفرنسية شركة المسيسبي صلاحيات تجارية واسعة أهمها حقها في البحث عن الذهب في صحراء ولاية لويزيانا، على الرغم من عدم وجود أي دلائل على وجود الذهب الذي ستتولى الشركة مهمة اكتشافه، فلم تعجز قريحة “جون لو” الفذة هذه عن البحث عن طريقة تمكن فرنسا من تسديد ديونها وذلك من خلال فتح الاكتتاب لبيع أسهم لشركة للتنقيب عن الذهب غير الموجود أصلا في لويزيانا في الولايات المتحدة، وبدأ “جون لو” في الترويج لهذا الوهم. للأسف لم يشأ أحد من المضاربين على أسهم شركة المسيسبي أن يسأل نفسه عن مدى صحة احتمال وجود هذا الذهب الذي تدعي الشركة أنها ستتولى اكتشافه، ربما لان الجميع لديه الرغبة في الاستفادة من فرصة ادعاء اكتشاف الذهب، ومن ثم لم يكلف أحدا نفسه عناء مناقشة ما إذا كان هذا الاحتمال صحيح أم لا.

تاريخ الأزمات المالية التي مرت على العالم يشير إلى انه عندما يلوح في الأفق احتمال تحقيق أرباح استثنائية فان المضاربين غالبا ما لا يقبلون مناقشة مدى صحة الاحتمال المناقض، ربما لأنهم من الناحية السيكولوجية يرغبون في ان يستمر هذا الاحتمال حتى ولو كان خاطئا.

ففي عالم يصعب فيه الحصول على الثروة، فإن فرصة تحقيقها تعد نادرة في الحياة الإنسانية، وهي فرصة ربما لا نود أو لا نرغب في ان تفوتنا. المهم تم طرح أسهم الشركة للجمهور، غير أن إيرادات عمليات بيع أسهم شركة المسيسبي لم تذهب للبحث عن الذهب في صحراء لويزيانا الذي لم يتم اكتشافه حتى يومنا هذا، وإنما استخدم لسداد ديون الحكومة الفرنسية.

الذي حدث بعد ذلك هو ان كل جنيه استخدمته الحكومة في سداد الدين للجمهور كان يتم إعادة استخدامه مرة أخرى في تمويل شراء الأسهم، وهو ما ساعد على رفع أسعار الأسهم من الناحية الاسمية، ومن ثم تمكين الحكومة من إيجاد مصادر لتمويل عمليات إصدار صكوك جديدة، ولما كانت هذه الصكوك مغطاة بالذهب في البنك الملكي فإن العلاقة بين الرصيد المعدني (الذهب) وحجم هذه الصكوك أخذت في الاختلال، وأصبح الرصيد الذهبي محدودا جدا بالقياس إلى حجم الصكوك المصدرة، إنها نفس القصة التي تكررت مرارا وتكرارا لاحقا، وأسوأ أشكال تكرارها هو ما قامت به الحكومة الأمريكية في ظل نظام بريتون وودز بإصدار كميات هائلة من الدولار قياسا برصيدها الذهبي، لتبيع للعالم حلما زائفا “دولار مغطى بالذهب”، بينما لم يكن الأمر كذلك، الأمر الذي أدى لاحقا إلى انهيار النظام في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ومن ثم تم فصل النقود عن الذهب بصفة نهائية.

في عام 1719 خرج “جون لو” بفكرة إعادة هيكلة الدين القوم الفرنسي من خلال شركة المسيسبي، وذلك عن طريق استبدال أسهم الشركة في مقابل صكوك الدين وضمان تحقيق أرباحا طائلة على هذه الأسهم، واستطاع “جون لو” أن يضخم من الثروة المتوقعة في لويزيانا من خلال خطة تسويقية محكمة، مما أدى إلى زيادة عمليات المضاربة على أسهم الشركة في 1719.

ترتب على تزايد شعبية هذه الأسهم بين الجمهور تزايد الحاجة نحو طبع المزيد من البنكنوت، فعندما بدأت أسعار أسهم شركة المسيسبي في الارتفاع عني ذلك ضرورة أن يتم إصدار المزيد من البنكنوت لتمويل عمليات شراء هذه الأسهم، وقام البنك الملكي بإصدار كميات هائلة من البنكنوت كرد فعل لذلك ومن ثم بدأ التضخم يرتفع في فرنسا.

استطاع “جون لو” أن يكون احتياطيات ضخمة من خلال عمليات الإصدار للأسهم وكذلك تحقيق أرباح من خلال إدارة الاحتياجات المالية للحكومة. وفي ظل إدارة “جون لو” تم توسيع نطاق أعمال شركة المسيسبي لتشمل عمليات جمع الضرائب والاتجار خارج أوروبا، وفي عام 1720 أرسل أمير ”كونتي” صكوكه إلى البنك الملكي لتحويلها إلى نقود ذهبية، ويقال أن الأمير قد أرسل 3 عربات حملت بالذهب في مقابل صكوكه، إلا أن “فيليب دو أورليانز″ قد تدخل لاحقا، بناء على طلب من “جون لو”، وأمر الأمير بإعادة الذهب مرة أخرى إلى البنك. غير أن الآخرين قد بدءوا في التفكير بأن الاحتفاظ بالذهب ربما يكون أفضل من الاحتفاظ بالصكوك، وفي محاولة زائفة لإقناع الجمهور بجدية نشاط الشركة، تم تجنيد كتيبة من المتسولين في باريس، وتم تسليحهم بالمعاول، كما لو أنهم في طريقهم إلى صحراء لويزيانا للبحث عن الذهب، غير أنه في غضون أسابيع عاد هؤلاء إلى أماكن عملهم مرة أخرى، مما أظهر حقيقة الموضوع على أنه عملية نصب رسمي على نطاق واسع، ولأن قيمة الأسهم كانت لا تعبر عن القيمة الفعلية لها، قام “جون لو” بتخفيض قيمة البنكنوت والأسهم إلى النصف، إلا أن قرار “جون لو” دفع الناس إلى موجة من البيع للأسهم، وهو ما أدى إلى تدهور الأسعار السوقية لها بشكل كبير.

لسوء حظ “جون لو” أن الجمهور كان يفضل أن تتم عمليات دفع الأرباح من خلال الذهب والفضة، حسبما اعتاد الناس وقتها، وخوفا منه على الرصيد الذهبي للبنك الملكي، ولمعرفته بأن القيام بذلك سوف يكشف غطاء البنكنوت الذي أصدره، توقف البنك الملكي عن صرف الصكوك بالعملات المعدنية، وانتهت القصة بصورة مأساوية للأسف، لتشكل مرة أخرى نفس الصورة التي ستنتهي بها كل أزمات العالم لاحقا، حيث انفجر بالون المسيسبي في أواخر عام 1720، ومثلما هو الحال في أي أزمة، لم يكن أمام الجميع الوقت الكافي للتقليل من خسائرهم، والنتيجة المعروفة هي الاندفاع كالقطيع نحو استبدال أوراق البنكنوت بالذهب.

عندها اندفع الناس لتحويل الصكوك إلى معدن، كانت كمية النقود الورقية المصدرة عدة أضعاف الرصيد المعدني الفعلي في البنك الملكي، ومن شدة الازدحام فقد 15 شخصا أرواحهم نتيجة الاندفاع أمام البنك، وكما أعلن ريتشارد نيكسون الرئيس السابق للولايات المتحدة بعدها بمائتين وخمسين عاما تقريبا، أن الدولار لم يعد قابلا للتحويل إلى ذهب، أصبحت صكوك البنك الملكي غير قابلة للتحويل إلى ذهب، وتحول بالتالي أصحاب الملايين من مالكي هذه الصكوك إلى فقراء.

بقية القصة معروفة، حيث أفلس البنك الملكي في 1721، ومن ثم انخفضت أسعار الأسهم إلى الصفر، وتحولت الصكوك إلى نقود بلا قيمة، ودخل الاقتصاد الفرنسي في حالة كساد بعد الأزمة وفقد الكثير ثرواتهم، وبدلا من أن يلوم المضاربون أنفسهم بأن روح المضاربة الجشعة هي التي أدت بهم إلى هذا المصير، كان اللوم بكاملة يلقى على عاتق “جون لو”، الذي اضطر إلى أن يعود إلى المنفى مرة أخرى.

كان الموقف محرجا جدا للحكومة الفرنسية، وكان لا بد من البحث عن كبش للفداء لهذه القصة السخيفة، لكي يتم إلقاء اللوم عليه، وبالطبع لم يكن هناك أفضل من “جون لو”، غير أنه وبحماية من “فيليب دو اورليانز″ خرج “جون لو” من فرنسا لكي يقضي أربع سنوات في بريطانيا مع منحه حماية من جريمة القتل التي ارتكبها سابقا، ثم ذهب بعد ذلك إلى روما وكوبنهاجين وفينيسيا حيث عاش حتى مات فقيرا في 1729. ومن المؤكد أن الحماية التي تمتع بها “جون لو” بعد ذلك بقية عمره كانت بمباركة من “فيليب دو أورليانز″، كمكافأة له على خدماته للمملكة.

انتهت أزمة بالون المسيسبي، غير أنه في الوقت الذي انفجر فيه البالون كان هناك بالونا آخر يتكون أيضا، ولكن في بريطانيا هذه المرة، وهو موضوع مقالنا القادم بإذن الله تعالى.

منقول من موقع ارقام
 

الزاجل@2

عضو نشط
التسجيل
9 ديسمبر 2005
المشاركات
529
الجزء الثاني لسلسلة عالم لا يتعمل من ازماته

الفا بيتا - د.محمد إبراهيم السقا


حدثت أزمة اليوم في بريطانيا في أوائل القرن الثامن عشر، وهي تمثل تجسيدا لما يمكن ان نسميه بـ “السلوك غير الرشيد للمستثمرين”، الذين سمحوا للآخرين بأن يخدعوهم، بدون أن يكلفوا أنفسهم عناء مناقشة ما يدور في أنفسهم من تساؤلات حول مدى صدق ما يتم الترويج له من شائعات، فقد كان كل هم المتعاملين في السوق هو الحصول على أوراق، أي أوراق، لكي يضاربوا عليها.

كان القرن الثامن عشر بالنسبة للإمبراطورية البريطانية هو قرن الرفاهية والثروة، مما يعني أن الكثير من الناس في هذا الوقت كان لديهم الكثير من المدخرات، وكانوا يبحثون عن فرص لكي يستثمروا فيها هذه الأموال، ولم تجد شركة بحر الجنوب South Sea Company، أفضل من هذه الظروف لكي تنفخ أحد أهم الفقاعات المالية في التاريخ، وكيف لا، وهي لم تواجه أي مشكلة في جذب هؤلاء المغفلين. تماشت هذه النظرة السائدة مع الإدارة المحنكة لشركة بحر الجنوب والتي قامت بإنشاء أكثر المكاتب فخامة وكلفة في بريطانيا، وعندما كان الناس يرون هذا المستوى الرفيع من الترف، كانوا لا يستطيعون أن يمنعوا أموالهم من الانجذاب نحو شركة بحر الجنوب، ولذلك تم تسويق الشركة بسهولة شديدة. هذا النجاح الباهر في تسويق الشركة، وكذلك النجاح الأبهر الذي حققه جون لو في فرنسا، رفع مستوى الزهو البريطاني إلى عنان السماء، وساد الاعتقاد بين الجمهور بأن الشركات البريطانية لا يمكن أن تسقط.

تم إنشاء شركة بحر الجنوب في عام 1711 بإيحاء من “هربرت هارلي”، إيرل أكسفورد، والتي تتشابه أهداف إنشاءها مع شركة المسيسبي التي تناولنا فقاعتها في الحلقة السابقة، وهي تحويل ديون الحكومة البريطانية الناتجة عن الحرب مع اسبانيا إلى أسهم في مقابل فائدة تدفعها الحكومة البريطانية، وقد كان الدين الحكومي البريطاني صعب التسويق في أوائل القرن الثامن عشر، وبعضه غير قابل للسداد، وعلى الرغم من أن العوائد على الدين الحكومي كانت مرتفعة، إلا أن السندات كانت تباع بخصم كبير.

كانت أول العمليات الجوهرية للشركة هي تحويل أكثر من مليون جنيه إسترليني إلى أسهم، في مقابل مدفوعات فائدة من الحكومة، ونتيجة لذلك انخفضت مدفوعات الدين الحكومي بشكل كبير، وشهد حملة السندات السابقين أن القيمة السوقية للأوراق التي يحملونها ترتفع بشكل واضح، وحققت الشركة أرباحا كبيرة نتيجة لذلك. في المقابل منحت الشركة احتكارا على حقوق التجارة في بحر الجنوب، وكانت عبارة بحر الجنوب تطلق في هذا الوقت على المياه المحيطة بأمريكا الجنوبية. ومن المعلوم في ذلك الوقت أن العرش الاسباني كان يحتكر حق التجارة والنقل مع هذا المحيط الضخم، غير أنه كانت هناك آمال بأن تفضي المفاوضات بين الحكومتين البريطانية والأسبانية عن منح بريطانيا حق الوصول إلى هذه المناطق، كالمكسيك وبيرو وباقي المناطق. كان النشاط التجاري للشركة محدودا للغاية، هذا إذا ما استثنينا بعض شحنات العبيد والمنسوجات التي أبحرت تحت علم الشركة، ومن الناحية الفعلية، كانت الشركة أكثر المتعاملين في الدين الحكومي منها في مجال التجارة الخارجية، بل إن الكثير من المؤشرات كانت تشير إلى أن إدارة أعمال الشركة كان تتم على نحو سيئ، لدرجة أنها لم تحقق حتى مستوى التعادل في تغطية تكاليفها.

كانت النظرة السائدة في هذا الوقت أن المكسيكيين والجنوب أمريكيين ينتظرون فقط أن يقدمهم أحد للإمبراطورية البريطانية لكي يتم تبادل خيوط الصوف والملابس الصوفية التي تصنعها بريطانيا في مقابل أكوام المجوهرات والذهب، ومرة أخرى لم يسأل أحد نفسه عن مدى معقولية هذا الاحتمال، بل لقد كان الانطباع السائد هو “شراء الأسهم المرتفعة الثمن بأقصى سرعة ممكنة وبمجرد أن تعرض للبيع″. كانت فكرة المشروع شبه وهمية وكما هو الحال في كل الأزمات، لم يكن هناك وقت أو رغبة في التحقق من مدى صحة تلك الادعاءات. كانت ردة فعل الجمهور للفرص التي ستتيحها الشركة غير متوقعة، استنادا إلى التوقعات حول العوائد التي يمكن ان يتم تحقيقها من الشركة.

في عام 1719 قامت الشركة مرة أخرى ببيع أسهم في مقابل ديون الحكومة، وبنهاية العام كانت الشركة تستحوذ على حوالي 20% من الدين العام البريطاني، ترتب على نجاح الشركة إقبالها على خطط اكبر، حيث اقترحت الشركة أن تتولى استبدال باقي الدين العام، وفي المقابل منحت الشركة حق إصدار أسهم لتمويل عملية التحويل. وللمفارقة أن الشركة قد تنافست مع بنك أوف انجلاند للحصول على الحق في عملية التحويل، ولكن الرشاوى التي دفعتها الشركة أمنت الصفقة لصالحها، ويقال أن الشركة قامت بدفع رشاوى في صورة أسهم لشركة بحر الجنوب كهدايا مجانية للوزراء الأساسيين في مقابل منح العديد من مديري المشروع فرص الحضور في البرلمان لجعل المزايا المتوقعة من الشركة معلومة للجميع، كما تم دفع نفس الرشاوى لـ 27 من أعضاء البرلمان و6 من أعضاء مجلس اللوردات، بالإضافة إلى العديد من الوزراء، ويقال أن الملك وأمير ويلز قد تلقيا رشاوى أيضا. كذلك تم الكشف لاحقا ان مديري المشروع كانوا في منتهي الكرم في منح أنفسهم أسهما للشركة.

في بداية ابريل 1720 وافق البرلمان والملك على أن تتولى شركة بحر الجنوب عملية التحويل، وهو ما أدى إلى تضاعف سعر سهم الشركة، وبما أن معامل التحويل بين سندات الدين الحكومي وأسهم الشركة لم يكن محددا، فإن الشركة كان يمكنها أن تحول المزيد من الدين العام بقيم أرخص في ظل تزايد أسعار سهم الشركة، وقد قامت الشركة بأربعة إصدارات بأسعار أعلى في كل مرة، كما قامت الشركة بعقد بعض القروض في مقابل أسهمها متسببة بذلك في خفض المعروض من هذه الأسهم وزيادة الطلب عليها، وبدأ مديري الشركة في الترويج للشائعات بأن أسهم الشركة مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، لأن الأسواق لم تأخذ في الاعتبار الحقوق الحصرية للشركة للتجارة مع العالم الجديد، وأن التجارة مع العالم الجديد توفر الأمان لحملة الأسهم، وأخذت أسعار الأسهم ترتفع بشكل متتالي من 128 جنيها في يناير إلى 330 جنيها في مارس، ثم إلى 550 جنيها في مايو و 890 في يونيو وحوالي 1000 جنيها في يوليو من نفس العام.

لم يحدث في تاريخ بريطانيا ان تحول الناس إلى أثرياء بهذه السرعة، ولم يقتصر الأمر بالطبع على بحر الجنوب، فقد تمت محاولات لإنشاء شركات مثيلة أو مبتكرة للمشاركة في أرباح الرواج الذي أحدثته الشركة في سوق المال. كان المستثمرون البريطانيون في حاجة ملحة لاستثمار أموالهم، وقد كانت شركة بحر الجنوب وأمثالها ناجحين فقط في إعطاء الجمهور ما يرغب فيه بالفعل، المزيد من الورق لكي يضاربوا عليه. لقد أدى الطلب المتزايد على الاستثمار إلى عرض الاكتتابات من كل حدب وصوب، ولأفكار شركات لا يمكن ان تخطر على قلب بشر، وفتح المجال على مصراعيه أمام مدمري ثروات المضاربين، لدرجة قد تجعل الفرد يشك فيما إذا كان ما ينشر عن أفكار هذه الشركات حقيقيا، فمثلا عرضت اكتتابات لشركات لاستعادة ضوء الشمس من الخضروات، وشركات لبناء قصورا عائمة لتوسيع مساحة الأراضي البريطانية، كما تم الإعلان عن اكتتابات لشركات للتأمين على الخيول، ولتحسين صناعة الحساء، ولشركات في فن صناعة الصابون، والتجارة في الشعر، ولتحويل الفضة إلى معدن ثمين، وشركات لإعادة إصلاح أو بناء شخصية الأفراد، وشركات لتحفيز الناس على رعاية الأطفال غير الشرعيين، وهكذا في إسهال غير مسبوق للشركات المعروضة للمستثمرين في سوق المال، ومع ذلك بيعت هذه الاكتتابات في جنون ليس له نظير. ألم أقل لكم إن الناس كانوا في أمس الحاجة إلى أوراق، حتى وان كانت بلا قيمة، لكي يضاربوا عليها.

ارتكبت إدارة الشركة خطئا قاتلا في نهاية هذا الجنون، حيث أخذت إدارة الشركة أول خطوة نحو الوراء، حينما أدركت الإدارة أن قيمة ممتلكاتها الشخصية من أسهم الشركة لا يمكن أن تعكس القيمة الحقيقية للشركة أو إيراداتها المثيرة للشفقة، فبدأ أعضاء إدارة الشركة في بيع أسهمهم سرا في صيف 1720، آملين ألا يشيع الخبر بين الناس، ولكن، مثل كل الأخبار السيئة، انتشر خبر قيام إدارة الشركة ببيع محتفظاتهم الشخصية من الأسهم بسرعة البرق، وانتشر الذعر بين حملة الأسهم، وبدأت حملة البيع المذعورة لأوراق ليس لها قيمة حقيقية، وفي أغسطس 1720 انتهت الحفلة، وأدرك المستثمرون ان المستعمرات الاسبانية التي تمتلك الشركة الحق الحصري في الاتجار معها تقع تحت سيطرة الأسبان، وان حق الاحتكار الذي تمتلكه الشركة هو حق صوري، وأن عمليات الشركة في مجال التجارة محدودة للغاية، وأن الشركة لا تحقق إيرادات، وأن الموضوع بالكامل كان عملية نصب محكمة، ومن ثم بدأت الفقاعة في الانفجار المدوي، وكما هو الحال في كل الأزمات ما إن يبدأ الانهيار فإنه يصبح من المستحيل إيقافه أو عكس اتجاه الكارثة.

كانت الشركة قد أنشأت شركة The Sword Blade لكي تكون الذراع المالي لها، غير أن الشركة أصبحت مفلسة في سبتمبر، وأخذ سعر سهم الشركة في التراجع بنفس السرعة التي صعد بها، لدرجة أنه في ديسمبر انخفض سعر السهم إلى 124 جنيها، مع سطوع حقيقة أن نهاية شركة بحر الجنوب باتت على الأبواب، أي إلى حوالي سبع أقصى قيمة وصل إليها، ومع تصاعد المطالبات بالتعويض تم اكتشاف اكبر فضيحة مالية في بريطانيا.

كشفت الفقاعة عن ثلاثة أركان أساسية ساهمت فيها هي:

الأول هو الوهم اللازم لبدء الفقاعة، فقد كان جميع الأطراف مشتركا في نفخ الفقاعة، بما فيهم الحكومة، وإدارة الشركة، والمضاربين الذين توهموا أن الاستثمارات المبدئية التي يقومون بها هي مجرد عملية إعادة تمويل للدين العام، بصفة خاصة توهم المستثمرون أن شركة بحر الجنوب تتصرف كما لو كانت بنكا، حيث قامت بالاستثمار في سندات الديون العامة، وأن هذه السندات سوف تدفع معدلات للفائدة لسنوات طويلة قادمة، كما أن الشائعات التي روجت لها إدارة الشركة أدت إلى تراكم الزخم اللازم لبدء الفقاعة، وبمجرد أن قام البرلمان بإعطاء الحق الحصري في التجارة لشركة بحر الجنوب أخذت الأسعار في الارتفاع الجنوني.

الثاني وهو بقعة المستثمرين العمياء، ذلك أن القراءة المتأنية لوقائع الأزمة تجعل الفرد يصاب بالدهشة من هذا القدر من البلاهة المثير للدهشة، كيف أهمل المستثمرون في الشركة حقيقة أن الشركة لا تحقق أي إيرادات من نشاطها التجاري؟، وأنه ليس هناك أي مبرر لان ترتفع أسعار أسهم الشركة إلى هذا المستوى الجنوني؟.

الثالث وهو التواطؤ الحكومي، وهو ما أدى إلى تعميق المشكلة، ذلك أنه مع إنشاء شركة بحر الجنوب استطاعت الحكومة أن تتخلص من حوالي خمس دينها العام، ومن ثم لم يكن أي أحد في الحكومة يرغب في أن يستفسر عن مدى فعالية الحل الذي تقدمة شركة بحر الجنوب لتحويل الدين الحكومي، المهم أن تتخلص الحكومة من أعباء الدين بأي ثمن.

أدى انفجار الفقاعة إلى أن خسرت بريطانيا كل مدخرات الأشخاص المقيمين فيها تقريبا، وأصبحت حوادث الانتحار روتين شبه يومي، وطالب الجمهور الذي خسر مدخراته، سعيا وراء الثروة، بالثأر ممن تسببوا في الكارثة. الآن جاء دور البحث عن كبش الفداء، والذي كان على نطاق واسع هذه المرة، حيث تم إجراء تحقيقات من قبل البرلمان، الذي لعب دورا في الكارثة، وتم عزل وزير الخزانة John Aislabie من مركزه وسجن، كما تم فصل العديد من أعضاء البرلمان ومصادرة أموال المدراء التنفيذيين للشركة الذين شاركوا في إنشاء والترويج للشركة، لتعويض الخسائر، على الأقل بشكل جزئي، التي لحقت بمن اشتروا الأسهم، ومنهم من سجن أو انتحر أو هرب خارج القارة، ومن الحالات المشهورة، تناول مدير مكتب البريد العام السم، بينما تجنب ابنه، الذي كان وزير دولة، الكارثة عندما مات بالجدري، وبالطبع تم إلقاء اللوم على هؤلاء جميعا، غير أن المغفلين الحقيقيين هم المستثمرين الذين سمحوا لهؤلاء بأن يخدعوهم في ظل رغبتهم الشديدة في الإثراء السريع، لدرجة حولت هؤلاء المضاربين إلى مجموعة من البلهاء ذوي التفكير السطحي لدرجة لا يمكن تصديقها.

كانت من المفترض ان يترتب على انفجار هذه الفقاعة حدوث انهيار اقتصادي تام في بريطانيا بدءا بانهيار البنوك، غير أن هذا الانهيار قد تم تجنبه نتيجة الوضع الاقتصادي المتين للإمبراطورية البريطانية في هذا الوقت، ووقوف الحكومة البريطانية وراء البنوك لمساعدتها على ضمان استقرار الصناعة المصرفية، كما قامت الحكومة البريطانية بحظر عمليات إصدار شهادات الأسهم بالقانون، والذي ظل ساريا لأكثر من مائة عام بعد ذلك. أشهر ما قيل في انهيار الفقاعة هو ما تردد على لسان العالم إسحاق نيوتن الذي قال مقولته المشهورة بعد أن خسر ثروة تقدر بحوالي عشرين ألف جنيها “يمكنني ان أقيس حركة الأجسام الكونية، ولكن لا يمكنني أن أقيس الجنون البشري”، وصدق إسحاق نيوتن، كيف يمكن قياس مثل هذا الجنون.

انتهت القصة، ولكنها سوف تتكرر بكافة حذافيرها لاحقا، بعد أكثر من 250 عاما في دولة عربية هي الكويت، فيما عرف في ذلك الوقت بأزمة سوق المناخ، حيث وجد فرسان المناخ ضالتهم المنشودة في شغف الجمهور نحو شراء وتداول الأوراق المالية، أي أوراق، المهم أن يكون مكتوبا عليها إسم شركة، حتى ولو كانت هذه الشركة وهمية أو مجهولة الهوية، إنه بالفعل عالم لا يتعلم من أزماته، وتلك قصة أزمة أخرى سوف أتناولها لاحقا في ترتيبها الزمني، إذا أحيانا الله.
 
أعلى