انهيار السوق السعودي: صمت المؤسسات وتواطؤ رجال الأعمال

immortal

عضو نشط
التسجيل
18 ديسمبر 2005
المشاركات
900
الإقامة
المملكة
خالد الدخيل

ما يحدث لسوق الأسهم في السعودية يمثل حالةً غريبةً. حالة أخذت تثير الارتباك. لم يعد واضحًا إن كانت الحالة ذات طبيعةٍ ماليةٍ، أم سياسيةٍ، أم إداريةٍ، أم حالةٍ تجمع في طبيعتها كل هذه الأبعاد. هي حالةٌ محيرةٌ فعلاً، وهي أنه لا أحد يعرف، أو هكذا يبدو الأمر، ما هي أسباب أن سوق الأسهم السعودية في حالة انهيار مستمرة لما يقرب من ثلاثة أشهر الآن. انهارت السوق حتى الآن أكثر من 50% من قيمتها التي كانت عليها أواخر شهر فبراير الماضي، ولا تزال مستمرةً في انهيارها. ما هو تفسير ذلك؟ ماذا لدى هيئة سول المال، أو مؤسسة النقد السعودي، أو وزارة المالية، أو وزارة التجارة، ماذا لدى كل هذه المؤسسات المنوط بها إدارة الشؤون الاقتصادية والمالية والتجارية للبلاد أن تقوله حيال ما يحدث للسوق؟ لا شيء. بل إن مؤسسة النقد وصفت في آخر بيان لهاـ وقت كتابة هذا المقال ـ ما يحصل للسوق هو عملية "تصحيح". تهوي السوق أكثر من 50%، ويبقى الأمر مجرد تصحيح؟!! إذن متى يكون الانهيار؟

بيان مؤسسة النقد يزيد الحالة ارتباكًا، ويعمق الشكوك حول حقيقة ما يحدث للسوق. وللتعرف إلى عينة من ردود الفعل على ما قالته المؤسسة يمكن النظر إلى تعليقات القراء في الموقع الإلكتروني لصحيفة الرياض. أحدهم علق بقوله، "التصحيح والله المفروض يشمل مؤسسة النقد، ويتم عن طريق وضع الرجل المناسب في المكان المناسب" بقية التعليقات (مجموعها عشرون) حملت الرؤية نفسها، سوى تعليقٍ واحدٍ. هناك تفسيراتٌ شائعةٌ بشكلٍ واسعٍ بين الناس تصف ما يحدث للسوق بأنه مدبرٌ، ويتم بشكلٍ مقصودٍ من قبل جهاتٍ أو أفرادٍ بعينهم. وتتهم هذه التفسيرات الجهات الرسمية بالتغاضي عن كل ذلك. طبعًا صمت الجهات الرسمية إزاء انهيار السوق يعزز مثل هذه التفسيرات. من ناحية أخرى، أشارت مصادر صحافية إلى أن هيئة سوق المال تراقب أربعة مصارف ارتكبت عددًا من المخالفات تزامنت مع انهيار السوق. لكن المتحدث باسم الهيئة أكد عدم اعتقاده أن تكون المصارف خلف هذا الانهيار. إذن مَن المسؤول؟ حسب رئيس الهيئة، جماز السحيمي، "تقع مسؤولية الانهيار على مستثمرين أثرياء من القطاع الخاص يهيمنون على السوق"، واصفًا البورصة السعودية بـ"أنها سوق مضاربين في الوقت الحالي". مؤسسة لا ترى في الأمر أكثر من عملية تصحيح. وهيئة سوق المال تحمّل المسؤولية على مضاربين، لكن من دون تفاصيل. وهنا مصدر الحيرة والارتباك. إذا كانت هذه المؤسسات لا تعرف شيئًا، أو تبدو وكأنها لا تعرف إلا بعض الشيء عن أسباب انهيار سوق الأسهم، والسوق في صلب تخصصها، وتحت مراقبتها وإشرافها، فمن الذي يمكنه إدعاء معرفة شيء من ذلك؟

السؤال الأخطر، والأكثر منطقية هنا هو: هل صحيح أن هذه المؤسسات لا تعرف شيئًا؟ أم أنها تعرف بعضًا من الحقيقة، ولكنها لا تعرف الحقيقة كلها؟ أم، وهذا احتمالٌ ثالثٌ، تعرف الحقيقة، ولكنها لأسباب متداخلة لا تستطيع الإفصاح عنها؟ وإذا كان الاحتمال الأخير هو الصحيح، وهو الاحتمال الأرجح حتى الآن، فما الذي يحول بينها وبين كشف الحقيقة؟ هل هو الخوف من كشف الحقيقة؟ الخوف من ماذا؟ وعلى من؟ على المنصب؟ أم على السوق؟ هل هو الخوف من تفاقم الانهيار؟ بعبارةٍ أخرى، هل المانع هنا من كشف الحقيقة هو خوف القائمين على هذه المؤسسات على مصالحهم؟ أم الخوف على مصالح الناس؟ أم أن هناك شيئًا آخر لا يعرفه أحد غيرهم؟ وهنا مصدر الحيرة والارتباك. صمت المؤسسات المسؤولة لا يترك مجالاً إلا لأسئلة من دون أجوبةٍ. وعندما تتراكم الأسئلة، ويقود بعضها إلى بعضٍ، ثم إلى جدارٍ مسدودٍ، ينفتح باب الشائعات، والشكوك على مصراعيه. وهو في واقع الأمر ما يحصل الآن في السعودية. ولا ينبغي لأهل هذه المؤسسات أن يشتكوا من ذلك، لأنهم أول مسؤول عنه، وعما يمكن أن يترتب عليه.

مما يضاعف من الغموض المشوب بالشك أمام ما يحدث، أن أداء سوق الأسهم يسير في تجاه استعصى حتى على محاولات الحكومة لتغييره. فقد اتخذت الحكومة خُطُوات عدة، وعلى مراحل بهدف تعديل مسار السوق، أو على الأقل وقف انهياره. حاولت في البداية من خلال فتح باب المساهمة في السوق أمام المقيمين، وجزأت قيمة السهم لجعله في متناول الجميع. ثم أعلنت قرار إنشاء أكبر مصرف مالي في المملكة، برأس مال 15 مليار ريال سعودي، وطرح 70% من رأس ماله للاكتتاب العام، ومن دون قيمة إصدارٍ. بعد هذه الخُطُوات بدا أن السوق مستعدةٌ للاستجابة. لكنها سرعان ما عاودت الانهيار بدرجةٍ أكثر حدة. بعد ذلك أعلنت الحكومة عن مشروع مدينة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أكبر مدينة اقتصادية في الشرق الأوسط، وطرح 30% من أسهمها للاكتتاب العام. لكن هذا لم يؤثر في السوق. وأخيرًا جاءت الخُطُوات الأخيرة بإنشاء مركز الملك عبدالله المالي في مدينة الرياض، ليضم سوق الأوراق المالية، ومقر هيئة سوق المال، وتحويل سوق الأسهم إلى شركة مساهمة. ولكن في اليوم التالي واصلت السوق انهيارها، وكأن شيئًا لم يحدث. ماذا يعني ذلك؟ كيف تفسر لنا وزارة المالية، ومؤسسة النقد، وهيئة سوق المال استعصاء سوق الأسهم أمام كل الخُطُوات التي اتخذتها الحكومة؟

ثم إن حركة سوق الأسهم تسير بشكلٍ معاكسٍ لمؤشرات الاقتصاد السعودي، وهي حسب وزارة المالية مؤشرات ممتازة: نمو اقتصادي يتجاوز 6%، ونمو في القطاع الخاص تجاوز 7%، وارتفاع غير مسبوق في أسعار النفط، نتج عنه دخل في السنوات الأخيرة سمح بصدور أضخم ميزانية في تاريخ المملكة هذا العام، ووفر فائضًا ماليًّا سمح بدوره بتسديد جزءٍ كبيرٍ من الدين العام للدولة. السيولة النقدية في السوق السعودية مرتفعة تصل إلى حوالي 600 مليار يال سعودي. كيف يمكن أن نفهم ما يحدث لسوق الأسهم السعودية في هذه الحالة؟ الصمت الرسمي، مضاف إليه المؤشرات الاقتصادية، وهي مؤشراتٌ رسميةٌ، تشير بشكلٍ واضحٍ إلى أن سبب، أو أسباب انهيار السوق لا تعود بشكلٍ أساسيٍّ على الأقل إلى أسبابٍ اقتصاديةٍ. الصمت الرسمي لما يحدث في السوق وللسوق لا يترك مجالاً إلا لفرضية واحدة، وهي أن سبب الانهيار هو سببٌ تنظيميٌّ في الأساس، أو له علاقة بالبيئة التنظيمية التي يعمل في داخلها السوق. بعبارةٍ أخرى، تقع مسؤلية الانهيار بشكلٍ أساسيٍّ على المؤسسات المنوط بها مسؤولية إدارة، وتنظيم ومراقبة سوق الأسهم، وإدارة الشأن المالي بشكلٍ عامٍ، وأهمها وزارة المالية، ومؤسسة النقد، وهيئة سوق المال.

ظاهرة انهيار سوق الأسهم السعودية أفرزت معها ظاهرة أخرى، وهي أن بعضًا من رجال الأعمال نشأت لديهم حساسية غريبة من تناول سوق الأسهم بالنقد والتساؤل ممن يقولون إنه ليس مختصًا بالشأن المالي أو الاقتصادي. الحساسية تكون مفهومة لو أن هؤلاء، ومن يعمل لديهم من المختصين، كانوا أكثر شفافية، وأكثر استعدادًا لتوفير ما لديهم من معلوماتٍ، أو على الأقل يقدمون البديل لما يعترضون عليه مما يُكتب ويُقال هذه الأيام عن سوق الأسهم. يأتي اعتراض رجال الأعمال هؤلاء متضافرًا مع صمت المؤسسات الرسمية. يرفض رجال الأعمال الحديث عن سوق الأسهم إلا في تجاه واحد، عدم الاقتراب من السؤال عن أسباب انهيار السوق، أو من المسؤول عن ذلك. كل ما يريدونه وجود تحليلٍ فنيٍّ باهتٍ، لا يتجاوز ترديد ما على الشاشة من أرقام، ومن دون الدخول في موضوع تجاه السوق، والعوامل المالية والسياسية التي تقف وراء هذا الاتجاه.

بل هم يذهبون أبعد من ذلك. هم لا يريدون وضع أية مسؤولية على المؤسسات الرسمية. حسنًا. إذا كان الأمر كذلك، وهو أمرٌ ممكنٌ، فلماذا لا يتبرع هؤلاء ويقولون لنا كيف يمكن البرهنة على ذلك. ولماذا هذه المؤسسات تلتزم الصمت الآن؟ لماذا يدافع رجال الأعمال عن المؤسسات الرسمية من دون تبريرٍ واضحٍ ومقنعٍ للجميع؟ موقف رجال الأعمال هنا يشبه موقف الكثير من المنتمين للتيار الديني الذين يحتمون بذريعة التخصص لتبرير احتكارهم "لحقيقة الدين"، وحقيقة مصالح المجتمع. وهنا تبدو طامة التواطؤ غير المكتوب، وغير المرئي، على المجتمع: رجال الدين لا يريدونك أن تتحدث في شؤون الدين وعلاقته بالمجتمع، ورجال السياسة لا يريدونك أن تتدخل في الشأن السياسي، ورجال الأعمال لا يريدونك أن تتدخل وتتحدث في الشأن الاقتصادي والمالي. ماذا يتبقى للناس في هذه الحالة؟

لكن الناس لم تصمت. الشائعات، ونظريات المؤامرة أصبحت هي التفسير السائد لانهيار السوق، وربط ذلك بصمت الجهات الرسمية. غياب المعلومة يحدث فراغًا من الأسئلة والشكوك ، لابد من ملئه. فات القائمون على المؤسسات الرسمية أن الإنسان لا يعيش من دون تبرير، أي من دون أيديولوجيا. صمت المؤسسات الرسمية حيال ظاهرة تتهدد الجميع، يحدث فراغًا يأتي من يملؤه.

مرور سوق الأسهم بعملية تصحيح، أمرٌ عاديٌّ ويحدث دائمًا. تعرض سوق الأسهم للانهيار أيضًا أمرٌ عاديٌّ، ويحدث دائمًا. لكن استمرار انهيار السوق لما يقرب من ثلاثة أشهر، ويقابل كل ذلك بصمتٍ رسميٍّ، ورفض من رجال الأعمال لتسبيب الانهيار يعني أننا أمام ظاهرةٍ غريبةٍ، بل وخطيرة أيضًا.

* نقلا عن مجلة "فوربس" العربية

http://www.alarabiya.net/Articlep.aspx?P=23947
 
أعلى