اللاعنف في الإسلام

asir

عضو نشط
التسجيل
26 نوفمبر 2006
المشاركات
21
يقول خالص جلبي :في العام 1997، دُعيتُ إلى عمان للمشاركة في ندوات فكرية نظَّمتْها "مؤسسة سجى للإنتاج الفني"، واجتمعتُ هناك بطائفة كبيرة من المفكرين المرموقين الذين يُعتبَرون من قمم الفكر الإسلامي – وكنا، الأستاذ جودت سعيد وأنا، نمثل مبدأ اللاعنف في ذلك المؤتمر. يومذاك اجتمعت بثلاثة أشخاص أراهم للمرة الأولى. قالوا لي:
- "أأنت الذي يقول بعدم الدفاع عن النفس وبعدم استخدام القوة في تغيير الأوضاع؟!" قلت:
- "نعم!" – وكانت أحداث سپتمبر لم تقع بعد.
بدأ أوسطهم بالحديث – وقد صار لاحقًا مقدِّم برامج في قناة "الجزيرة" – وضحك مني حتى انقلب على ظهره من سذاجتي وقلة خبرتي وعدم فهمي للنصوص القرآنية – والرجل انتقل إلى رحمة ربِّه الآن وأصبح "في مقعَد صِدْقٍ عند مليكٍ مقتدر" (القمر 55).
أصغيت في حذر إلى كلام الثلاثة مدة 25 دقيقة من دون تعليق، حتى إذا فرغوا قلت لهم:
- "لا جديد عندكم! وفي إمكاني أن أعطيكم أسلحة جديدة من الأفكار تتسلحون بها. ولكن لماذا أسهِّل عليكم مهمتكم، والأفكار التي ذكرتموها معروفة كلها ومردود عليها؟" قال الأول من جديد:
- "أنت تقول باللاعنف، والتاريخ كله دم! فهل هناك شاهد واحد على تغيير اجتماعي من دون دم؟!" قلت له:
- "إن أعظم ثورة اجتماعية في التاريخ على الإطلاق لم تكن الثورة البلشفية ولا الفرنسية – وهما ليستا بالنموذجين المشرِّفين! – ولا حتى الإيرانية، التي بدأت باللاعنف وخُتِمَتْ بيد الخلخالي المجرم وأضرابه في حملات الإعدام التي لم تتوقف، بل ثورة محمد (ص) التي حدثت وتمت ونجحت بخسارة شهيد واحد – وكانت امرأة هي سُميَّة التي لم تدافع عن نفسها! فهل هناك أسلوب "اقتصادي" أفضل من هذا للنجاح الاجتماعي؟!"
عند هذه النقطة قفز ثلاثتهم وقالوا:
- "فماذا عن الغزوات والسرايا والفتوحات؟!"
عند هذه النقطة نبقى في ضباب أشد من عسير ولندن! قلت:
- "محمد (ص) أقام دولة وبنى مجتمعًا باللاعنف." وهنا قالوا:
- "المسيح لم يستخدم قوة مسلحة، ومحمد (ص) استخدمها!" فأجبت:
- "الالتباس يحصل بين مرحلتَي الدعوة والدولة. الدولة هي التي تمارس العنف منذ أن اخترع البشر الدولة وصنعوها، لسبب بسيط هو أن الدولة، باحتكارها العنف، توفر الأمن للأفراد لكي يتمكنوا من إقامة الحضارة. فلولا الأمن ما نشأت الوحدات الحضارية. والرسول محمد (ص) يختلف عن المسيح – عليه السلام – في أن الثاني لم يكمل عمله، والأول أكمله. وكان المسيح يلوِّح أحيانًا باستخدام القوة. فقد جاء في الإنجيل: "لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض: ما جئت لأحمل سلامًا بل سيف" (متى 10: 34). وفي المقابل، كان الرسول (ص) يوصي أتباعه في المرحلة المكية بعدم الدفاع عن النفس، ونزل القرآن يقول: "كفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة" (النساء 77). وكان النبي (ص) يكرر لأتباعه: "لم نؤمَر بقتال." و"السيف" في الإنجيل إشارة إلى ما فعله محمد (ص) بعد إقامة الدولة، في ممارسة العنف بعد احتكار القوة، التي هي وظيفة كلِّ دولة، ولا يمكن أن تقوم دولةٌ من دونها عمليًّا حتى اليوم."
فالدولة، كنظام سياسيٍّ، لها "وظيفة" أولى هي توفير الأمن داخلها للأفراد باستخدام العنف كلما اضطرت إلى ذلك. يظهر هذا واضحًا في منظر رجل الشرطة، والمسدس يتدلَّى من خصره، حينما يُستدعى للفصل في حادث سيارة في أيِّ مكان من العالم – اليابان أو ماليزيا، أمريكا أو كندا. ولا أظن أن "مديرية السكن" Régie du logement – المؤسسة الكندية للفصل بين مالك البيت والمستأجر – تتوانى عن استخدام الشرطة فيما لو حكمت القاضيةُ بخروج المستأجر وعودة البيت إلى مالكه الأساسي في حال رَفَضَ المستأجرُ الخروجَ من المنزل. فداخل أية دولة في العالم تمارس الدولةُ، إذا لزم الأمر، القوةَ المسلحة لتطبيق القوانين داخلها وللدفاع عن نفسها عند الهجوم عليها من الخارج في الحروب – وهذا له حديث آخر لاحقًا؛ بينما حديثنا يدور حول موضوع كيفية صناعة المجتمع: هل ينشأ المجتمع بالقوة العسكرية أم سلميًّا؟ وما أهمية ذلك؟ ولماذا حرص الأنبياءُ جميعًا على سلوك الطريقة نفسها؟: "ولقد جاءك من نبأ المرسَلين" (الأنعام 34). وهل يُزال الطاغوتُ بطاغوت القوة، أم يُزال الطاغوتُ بالشرعية؟!
هذا ما فعله محمد (ص) وما كان يحاول المسيح – عليه السلام – وغيره من الأنبياء فعله من أجل إزالة الطاغوت بالشرعية – سلميًّا. ولم يكمل المسيح عمله، وأكمل محمد (ص) عمله؛ مما جعل اليهود في المدينة، حين سمعوا الآية: "اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينًا" (المائدة 3)، يقولون: "لو نزلت هذه الآيةُ علينا لجعلنا يومها عيدًا!" وهو الذي جعل الفلكيَّ الأمريكي مايكل هاردت، في كتابه المئة الأوائل، يضع محمدًا (ص) في طليعة هؤلاء "المئة" – وهو المؤلِّف الذي سرق كاتبٌ عربي كتابَه ونَسَبَه لنفسه! – ويعتبره ناجحًا نجاحًا باهرًا مئة بالمئة: ليس مثل انتخابات أصنام العالم العربي، من نماذج صدام الوحش أو انتخابات حزب البعث. فاستحق محمد (ص) بذلك أن يكون أفضل الرجال في التاريخ.
 
أعلى