الحفاظ على اللغة حفاظ على الهوية: كوريا والصين نموذجاً

ريفالدو

موقوف
التسجيل
26 أغسطس 2003
المشاركات
698
الحفاظ على اللغة حفاظ على الهوية: كوريا والصين نموذجاً

بقلـم : د. فيحاء عبد الهادي

"ضع شعباً في السلاسل/ جرِّدهم من ملابسهم/ سدّ أفواههم.. لكنهم ما زالوا أحراراً/ خذ منهم أعمالهم.. وجوازات سفرهم/ والـموائد التي يأكلون عليها/ والأسرَّة التي ينامون عليها/ لكنهم ما زالوا أغنياء/ إن الشعب يفتقر ويستعبد/ عندما يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد/ وعندها يضيع إلى الأبد". اجنازيا بوتينا/ شاعر صقلي


*****

ما دور اللغة العربية الفصحى في البلدان الواقعة تحت الاحتلال؟ وماذا عن البلدان التي استقلّت، بعد أن أمضت فترة طويلة تحت الاحتلال، مثل الجزائر. ما علاقة اللغة العربية الفصحى باللغات الأخرى، بما فيها الأمازيغية؟ اللغة العربية الدارجة؟ الفرنسية؟ وكيف تتجسد العلاقة بين الـمستعمِر والـمستعمَر، من خلال اللغة؟ كيف تحافظ اللغة العربية على وجودها، في ظلّ هيمنة الاستعمار والاحتلال في فلسطين والعراق؟

تلاحقت الأسئلة، بينما كنت أستمع إلى تجارب عالـمية، في الحفاظ على اللغة الأمّ، ضمن جلسات مؤتمر: "لغة الطفل العربي في عصر العولـمة". شدَّتني التجربة الكورية الجنوبية، والتجربة الصينية، ووجدتني أستمع باهتمام وإعجاب كبيرين إلى تفاصيل التجربتين.

أدركت كوريا الجنوبية مكانة اللغة الأم، وعلاقتها بالهوية، وخاصة بعد الاحتلال الياباني، الذي عمد إلى طمس الهوية، عبر فرض اللغة اليابانية، لتدرَّس في الـمدارس الكورية، عام 1931م؛ لذلك عمد الكوريون فور استقلالهم، بعد الحرب العالـمية الثانية 1945م، إلى الاهتمام الـمضاعف باللغة الكورية، مدركين أن استلاب اللغة يعادل ضياع الهوية. كما أدركوا أن الحفاظ على اللغة، ليس مجرد شعار، فبادروا إلى الحفاظ على لغتهم، عبر الاهتمام بالـمدرسة، والـمعلـم، والكتاب، والـمكتبة. قدّروا الـمعلـم معنوياً ومادياً، حتى أن راتب الـمعلـم في مرحلة التدريس للطفولة الـمبكرة، لا يقل عن ألفين وثلاثمائة دولار شهرياً. ولا يسمح له بتعليم دروس خصوصية؛ وإلاّ فقد عمله إلى الأبد.
واستدعى هذا الاهتمام، أن يشترط فيمن يتخصص في تعليم اللغة للأطفال، اجتياز امتحان قدرات لغوية، شعراً ونثراً شفهياً وتحريرياً.
اهتموا بشكل الكتاب الخارجي، بالإضافة إلى الرسوم التوضيحية الجذابة من الداخل. أما لغة الكتاب فمتناسبة مع مرحلة الطفل العمرية، من حيث التراكيب والألفاظ وطريقة التقديم.
استخدم الكوريون تقنيات تربوية غير تقليدية، تعتمد الحوار، وكتابة التعبير والقصة، وتستعين بالفنون الـمتنوعة، مثل الـمسرح، والتمثيل، كما تستعين بالـمسابقات، والرّحلات العلـمية والترفيهية، وتدرب الأطفال على استخدام الحاسوب، ووسائل الـمعلومات الدولية.
وأولى الكوريون أهمية خاصة للقنوات التلفزيونية، فخصّصوا خمس قنوات منها للأطفال، كما خُصص في القنوات الأخرى وقت محدّد لبرامج الأطفال، وكلّها تبث باللغة الكورية الفصحى.
أولى الكوريون اهتماماً بالتأليف والترجمة للطفل، حتى أن ما يؤلّف ويترجم في جميع فروع الـمعرفة، يخصّ الطفل منه 37%.
ومن أجمل ما سمعت حول سبل تشجيع الأطفال على القراءة؛ اعتبار قراءة الكتب مجانياً، في الـمكتبات العامة والخاصة، حقّا للأطفال على مجتمعهم. أنشأوا ركناً خاصاً بالأطفال، مجهزاً بمقاعد ومكاتب، حيث يتاح لهم قراءة ما يشاؤون، دون أي إزعاج من صاحب الـمكتبة.
أما عن اللغة الأجنبية، وهي الإنجليزية، فهي تدرَّس منذ الصف الثالث الابتدائي، حتى مراحل الدراسة كافة، كمادة إجبارية. وفي الثانوية العامة، يتمكن الطالب من اختيار لغة أخرى من بين اللغات: اليابانية، والصينية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، والعربية، والألـمانية.

*****


"لو كانت اللغة فحماً؛ لكان الشاعر هو الشخص الذي يوقد هذا الفحم، ولكان الضياء في ألسنة اللهب، هو الشعر الذي يضيء القلوب". هان زو رونج/ شاعر صيني


*****


آمن الشعب الصيني بأن الشعر هو فنّ اللغة، الأمر الذي جعل تجربتهم تعتمد بشكل أساس على تعليم الشعر، طريقاً للحفاظ على هوية الأمة، لأن الشعر يعبِّر عند الصينيين عن عزيمة الشعب، وعن الأمل. وطالـما شكَّل الشعر القديم عموداً أساساً في الثقافة التقليدية الصينية، حتى أن كتابة الشعر شكَّلت ميزة للـمواطنين الصينيين، وسبباً لاختيارهم للوظيفة الحكومية.
يبدأ الطفل تعلـم الشعر منذ الطفولة الـمبكرة، ومع تعلـم أحرفه الأولى، يمكنه حفظ ما يزيد على مائة قصيدة، كما يؤكد الصينيون؛ لأن الذاكرة قبل سن الثالثة عشرة تكون الأقوى، فيكون الطفل أقدر على التعلـم والحفظ والاستيعاب. فالشعر يمكن أن يحوِّل الحجر إلى ذهب، كما يؤمن الصينيون.
وفي مرحلة الشباب، تحرص الصين على رفع أهمية تعليم الثقافة القومية، من خلال الـمدارس والجامعات. تعنى كل مدرسة، ليس فقط بتعليم اللغة الأم، بل بإتقانها أيضاً. وهناك معاهد أسست خصيصاً داخل الجامعات من أجل ترسيخ الثقافة القومية. وتعقد أنشطة لإلقاء الشعر، وتنظيم الـمسابقات الشعرية، بين الشباب بشكل واسع، وبإشراف متخصصين.

*****


هل هناك شعب ينتقص من قدر لغته، قدر الشعب العربي؟
هزَّني السؤال، وانتابني شعور بالأسى، واختلط بمشاعر الإعجاب والتقدير للتجربتين: الكورية والصينية. ها هي الشعوب التي تحترم لغتها الأم؛ تعيد الاعتبار لهويتها وكيانها، وتكتسب احترام العالـم. اليابان مثلاً، ورغم تفوّقها التقني، لـم تعمل على رفع مستوى اللغة الأجنبية في بلدها، على حساب لغتها الأم؛ بل حافظت على لغتها، وأتاحت لقلة من مواطنيها إتقان اللغة الأجنبية، حتى تنقل التقدم التكنولوجي إلى اللغة اليابانية، ضمن استراتيجية مدروسة جيداً.

متى نعيد الاعتبار إلى لغتنا العربية؟ متى نكفّ عن التباهي بإجادة أولادنا أكثر من لغة أجنبية، مقابل عدم اكتراثنا بضعفهم في اللغة العربية؟ كيف يمكن زيادة كفاءة مدرِّسي اللغة العربية؟ وهل يمكن زيادة مخصصاتهم الـمادية، وتكريمهم معنوياً؟ حتى يجدوا الوقت الكافي للحوار مع الأطفال، ولتنظيم نشاطات طوعية، مثل مسابقات الكتابة الإبداعية، وإحياء تقاليد قديمة مثل: "سوق عكاظ"؟

ألا يجب أن نمنع السخرية من العربية، وخصوصاً في مجال الإعلام؟ وهلاً نهتمّ بكل ما يؤلف للطفل، وبما يترجم له، ونزيد البرامج الـموجهة إلى الأطفال، التي تستخدم الفصحى، بشكل يجمع بين الفائدة والإمتاع؟ ولـماذا لا نطالب بقانون يوجب كتابة الإعلانات باللغة العربية؟

متى نُخلِص للغتنا، ونُخَلِّصها من شعور أبنائها باحتقار الذات. ولـماذا لا نثبِّت لغة الطفل الأم أولاً، ثم نفتح أمام أطفالنا أبواب الـمعرفة الإنسانية على اتساعها؛ الأمر الذي يتيح لهم أن يبدعوا بلغتهم، ويضيفوا إلى التراث الإنساني؟

* كاتبة وباحثة فلسطينية من مدينة نابلس.

http://www.amin.org/look/amin/artic...ation=7&NrArticle=40097&NrIssue=1&NrSection=2
 
أعلى