البورصة.. انهيار وانتحار (1-3)
أيها الرجل اخسر العالم كله.. لكن لا تخسر نفسك!
كتبت د. رضوى فرغلي:
انهيارات سريعة ومفاجئة في مؤشر الاسهم بدّلت حياة الكثيرين على مستوى العالم.. والكويت.
حركة عشوائية بين اللونين الاخضر والاحمر قضت على احلام اشخاص علقت كثيرا في الفضاء. صدمة قوية افقدت الكثيرين توازنهم، وخسارات قاسية قسوة الموت.
حالات كثيرة لم تفق من هول الصدمة بعد، بل تدهورت بهم الامور ودخلت في منعطف اجتماعي ونفسي واسري خطير. امثلة كثيرة لاشخاص ما زال يطاردهم شبح الخسارة وربما الفقر، ويسلبهم سعادتهم واقبالهم على الحياة. لجأ بعضهم الى شراء الاسهم بطريقة «الآجل»، آملين ان تحقق لهم ارباحا مضاعفة، لكن ما حدث ان خسارتهم قد وقعت وتكبدوا المعاناة النفسية وضاعت احلام روادتهم وغازلت عقولهم سرا، فدفعتهم للمضاربة من دون ان يخبروا احدا من افراد اسرتهم الا حينما فقدوا السيطرة على مشاعرهم المهزومة، واصبحوا بحاجة شديدة إلى من يشاركهم او يخفف عنهم معاناتهم، ويبث فيهم روح الامل، خصوصا اولئك المتعاملين ممن هم في مرحلة عمرية تسمح لهم بتدارك الكارثة، كونهم في سن ما بين 20 و 40 عاما، تلك السن التي يحلم فيها كل شخص بتكوين نفسه ماديا، حتى يستقر فيما بعد ويحصد نتيجة ما بذل من جهد ووقت. لكن في حالة الاعتماد على البورصة فقط كوسيلة للاستثمار، تأخذهم الاوهام بعيدا عن شاطئ الواقع سعيا وراء مكاسب سريعة من دون تعب او مثابرة، فيأتي الخذلان قاسيا ويحتاج الى قوة نفسية وارادة للبداية من جديد.
باعوا بيوتهم
حلم الثراء السريع دفع عددا كبيرا من المضاربين الى الاقتراض من البنوك ورهن عقاراتهم، والمغامرة بمكافأة تقاعدهم، لكن الحلم تحول الى كابوس مزعج، واضفى اللون الاحمر على حياتهم صخبا لا ينتهي حين فقدوا معظم رؤوس اموالهم، وربما كلها وكذلك ما استدانوه واصبحوا مطالبين بسداد القروض، ومهددين بخسارة كل ثرواتهم ومدخراتهم.. وحتى بيوتهم، اضافة الى الالم النفسي والاجتماعي الذي يشعرون به حين تطاردهم القضايا، وترن في اسماعهم احكام قضائية تضخّم من ازمتهم المادية، وتقلل من تقبلهم للصورة السلبية عن الذات ونظرات الآخرين لهم وربما تخلي البعض عنهم.
لم تؤثر البورصة على صغار المستثمرين فقط، انما انعكست بوضوح على اثرياء كانت خسارتهم فادحة بفقدانهم كل اموالهم وباتوا يعانون ازمة من نوع خاص، كيف سيواجهون افراد اسرهم؟ هل سيتقبل اودلادهم الانحدار فجأة الى مستوى اقتصادي واجتماعي اقل؟ كيف ستتصرف الزوجة التي اعتادت حياة مرفهة وعناية فائقة بالتفاصيل التي تستنزف اموالا طائلة للحفاظ على مظهر اجتماعي معين؟ كيف سيتحول الزوج نفسه فجأة من نمط حياة الى آخر لم يعتده، او ربما لا يملك القدرة النفسية على اعتياده؟ حالات كثيرة قد لا تستطيع فيها الاسرة التكيف مع الوضع المادي الجديد، مما يفتح باب الخلافات الزوجية والاسرية على مصراعيه ويهدد الاسرة بتصدع حقيقي لا بسبب فقدانها الاموال، وانما بسبب افتقاد الترابط العائلي وسيادة ثقافة مغلوطة تجعل من الرجل محترما ومقدرا طالما كان ممولا جيدا لاسرته ويوفر لها دخلا ماديا مرضيا، وفقدانه ذلك الدور يفقد هيبته ومكانته القيادية في الاسرة.
وعلى الرغم من ان الازمة بالغة والخسائر من الصعب تعويضها في معظم الحالات، فان الخاسرين حريصون على الكتمان، وعدم افتضاح امرهم، وعدم التصريح بالخسارة ولا بالمشكلات الاسرية والزوجية التي يعانون منها، مما خلق صعوبة حقيقية في رصد مظاهر الاضطراب النفسي والاجتماعي والجنسي بين المتضررين من انهيارات البورصة، وهو الامر نفسه في بقية الدول العربية والخليجية حيث التعتيم على كل مشكلة، لكن احيانا ينفجر البعض مرضاً او انتحاراً او كآبة او شكوى صارخة تطلب العلاج والمساندة، ولعل ما حدث اخيراً في دول كثيرة من حالات انتحار يؤكد عمق الازمة.
انتحار وموت مفاجئ
استوقفتني حالتان لرجلين مصريين، شنق احدهما نفسه، ومات الاخر اثر ازمة قلبية حادة.. لم يحتملا صدمة الخسارة، فقرر الاول انهاء مأساته بطريقته الخاصة.. ويحمل اختياره لطريقة موته دلالة رمزية قوية، ليس فقط لانه تخلص من نفسه الخاسرة او قضى على ذاته الفاشلة التي لم يستطع التكيف معها وتقبلها في كل حالاتها، وانما تكمن الدلالة في استعراض هذا الموت وتعليق جسده مشنوقا متدليا في مهانة امام الجميع الذي يعبر عن عدوان شديد على الذات، واعتذار ضمني للاخرين عن صورة أبوية أو زوجية او انسانية لم يستطع الحفاظ عليها.. احساس شديد بالذنب وضعف المواجهة ويأس بلغ حده الاقصى، مما دفعه لاستجماع ماتبقى لديه من شجاعة لوقف نزيف الخسارات في استسلام ابدي.
اما الرجل الثاني، فلم يمهله العمر كثيرا ليفكر في طريقة الخلاص من الازمة، تولى جسده تلك المهمة الشاقة، واتخذ قرارا داخليا غير خاضع للمراجعة حين توقف قلبه فجأة استجابة لحالة احباط شديدة، وحزن لم يحتمل آلامه.. رحيل هادئ من دون صخب، واستكانة لروح تعبت من الفقد، ونفس هزمتها الخسارة، ولم تمتلك الثقة الكافية في استرجاع او تعويض ما راح، فأصبحت الحياة لديه مقابل النجاح، والموت مقابل الفشل.
نظرة أخرى
لم يصل الامر في الكويت الى حد الانتحار لكن الخسارة بكل اشكالها موجعة ومحبطة في كل زمان ومكان، وان ظل تأثيرها متباينا من انسان الى اخر، فهناك نوعان من الخاسرين: الاول يتعافى بسرعة من الم الخسارة، ويلملم ذاته المبعثرة ويتخذ من ضعفه المادي حافزا للمضي قدما نحو الثبات والنجاح مرة اخرى، مهما كان المشوار طويلاً او مرهقا، فالنقود بالنسبة له مهمة، لكنها ليست اهم من نفسه واسرته وحياته.. لديه من القناعة اللا شعورية بالنجاح، والقدرة النفسية، والثقة ما يؤهله للوقوف ثانية والتصدي للازمات والمواقف الصعبة، وتحويل الفشل الى نجاح، حتى وان تخلى عنه الاقربون.
اما النوع الثاني، وهو من ادت به الخسارة الى الانتحار او الموت او المرض وتوقفت به الحياة عند تلك اللحظة من دون القدرة على تجاوزها، هو شخص علاقته بذاته مضطربة، وحبه لنفسه مشروط، فهو يحب نفسه ويقدرها ويتقبلها في حال النجاح والثراء فقط، ولا يتحملها في الازمات، فيقرر التخلص منها او يجعلها حبيسة الاضطرابات السلوكية واضطرابات النوم والاكل، ويقدم نفسه فريسة سهلة للقلق والاكتئاب واجترار الألم، تلك المعاملة السلبية مع الذات تنعكس على معاملة الاخرين له، فكيف يطلب المرء من المحيطين به ان يحترموه ويقدروه ويساندوه في ازمته ويحبوه من دون شروط وفي كل الاحوال، وهو يفتقد الى كل هذه الاشياء في تعامله مع نفسه؟!
ان الوازع الروحي الصادق والقوي، وتقبل الذات كما هي في النجاح والفشل، والقوة والضعف، تجعلنا نتعامل بثقة مع الحياة، وتجبر الاخرين على التعامل معنا من المنطلق نفسه، ويتواطأ الكون معنا ليحقق لنا احلامنا وطموحاتنا التي تحتمل دوما الربح والخسارة، فغالبا ما يكون الإخفاق اساس النجاح والشدائد تصنع الرجال، وليس مهما ان تخسر العالم كله، بل المهم ألا تخسر نفسك.
أيها الرجل اخسر العالم كله.. لكن لا تخسر نفسك!
كتبت د. رضوى فرغلي:
انهيارات سريعة ومفاجئة في مؤشر الاسهم بدّلت حياة الكثيرين على مستوى العالم.. والكويت.
حركة عشوائية بين اللونين الاخضر والاحمر قضت على احلام اشخاص علقت كثيرا في الفضاء. صدمة قوية افقدت الكثيرين توازنهم، وخسارات قاسية قسوة الموت.
حالات كثيرة لم تفق من هول الصدمة بعد، بل تدهورت بهم الامور ودخلت في منعطف اجتماعي ونفسي واسري خطير. امثلة كثيرة لاشخاص ما زال يطاردهم شبح الخسارة وربما الفقر، ويسلبهم سعادتهم واقبالهم على الحياة. لجأ بعضهم الى شراء الاسهم بطريقة «الآجل»، آملين ان تحقق لهم ارباحا مضاعفة، لكن ما حدث ان خسارتهم قد وقعت وتكبدوا المعاناة النفسية وضاعت احلام روادتهم وغازلت عقولهم سرا، فدفعتهم للمضاربة من دون ان يخبروا احدا من افراد اسرتهم الا حينما فقدوا السيطرة على مشاعرهم المهزومة، واصبحوا بحاجة شديدة إلى من يشاركهم او يخفف عنهم معاناتهم، ويبث فيهم روح الامل، خصوصا اولئك المتعاملين ممن هم في مرحلة عمرية تسمح لهم بتدارك الكارثة، كونهم في سن ما بين 20 و 40 عاما، تلك السن التي يحلم فيها كل شخص بتكوين نفسه ماديا، حتى يستقر فيما بعد ويحصد نتيجة ما بذل من جهد ووقت. لكن في حالة الاعتماد على البورصة فقط كوسيلة للاستثمار، تأخذهم الاوهام بعيدا عن شاطئ الواقع سعيا وراء مكاسب سريعة من دون تعب او مثابرة، فيأتي الخذلان قاسيا ويحتاج الى قوة نفسية وارادة للبداية من جديد.
باعوا بيوتهم
حلم الثراء السريع دفع عددا كبيرا من المضاربين الى الاقتراض من البنوك ورهن عقاراتهم، والمغامرة بمكافأة تقاعدهم، لكن الحلم تحول الى كابوس مزعج، واضفى اللون الاحمر على حياتهم صخبا لا ينتهي حين فقدوا معظم رؤوس اموالهم، وربما كلها وكذلك ما استدانوه واصبحوا مطالبين بسداد القروض، ومهددين بخسارة كل ثرواتهم ومدخراتهم.. وحتى بيوتهم، اضافة الى الالم النفسي والاجتماعي الذي يشعرون به حين تطاردهم القضايا، وترن في اسماعهم احكام قضائية تضخّم من ازمتهم المادية، وتقلل من تقبلهم للصورة السلبية عن الذات ونظرات الآخرين لهم وربما تخلي البعض عنهم.
لم تؤثر البورصة على صغار المستثمرين فقط، انما انعكست بوضوح على اثرياء كانت خسارتهم فادحة بفقدانهم كل اموالهم وباتوا يعانون ازمة من نوع خاص، كيف سيواجهون افراد اسرهم؟ هل سيتقبل اودلادهم الانحدار فجأة الى مستوى اقتصادي واجتماعي اقل؟ كيف ستتصرف الزوجة التي اعتادت حياة مرفهة وعناية فائقة بالتفاصيل التي تستنزف اموالا طائلة للحفاظ على مظهر اجتماعي معين؟ كيف سيتحول الزوج نفسه فجأة من نمط حياة الى آخر لم يعتده، او ربما لا يملك القدرة النفسية على اعتياده؟ حالات كثيرة قد لا تستطيع فيها الاسرة التكيف مع الوضع المادي الجديد، مما يفتح باب الخلافات الزوجية والاسرية على مصراعيه ويهدد الاسرة بتصدع حقيقي لا بسبب فقدانها الاموال، وانما بسبب افتقاد الترابط العائلي وسيادة ثقافة مغلوطة تجعل من الرجل محترما ومقدرا طالما كان ممولا جيدا لاسرته ويوفر لها دخلا ماديا مرضيا، وفقدانه ذلك الدور يفقد هيبته ومكانته القيادية في الاسرة.
وعلى الرغم من ان الازمة بالغة والخسائر من الصعب تعويضها في معظم الحالات، فان الخاسرين حريصون على الكتمان، وعدم افتضاح امرهم، وعدم التصريح بالخسارة ولا بالمشكلات الاسرية والزوجية التي يعانون منها، مما خلق صعوبة حقيقية في رصد مظاهر الاضطراب النفسي والاجتماعي والجنسي بين المتضررين من انهيارات البورصة، وهو الامر نفسه في بقية الدول العربية والخليجية حيث التعتيم على كل مشكلة، لكن احيانا ينفجر البعض مرضاً او انتحاراً او كآبة او شكوى صارخة تطلب العلاج والمساندة، ولعل ما حدث اخيراً في دول كثيرة من حالات انتحار يؤكد عمق الازمة.
انتحار وموت مفاجئ
استوقفتني حالتان لرجلين مصريين، شنق احدهما نفسه، ومات الاخر اثر ازمة قلبية حادة.. لم يحتملا صدمة الخسارة، فقرر الاول انهاء مأساته بطريقته الخاصة.. ويحمل اختياره لطريقة موته دلالة رمزية قوية، ليس فقط لانه تخلص من نفسه الخاسرة او قضى على ذاته الفاشلة التي لم يستطع التكيف معها وتقبلها في كل حالاتها، وانما تكمن الدلالة في استعراض هذا الموت وتعليق جسده مشنوقا متدليا في مهانة امام الجميع الذي يعبر عن عدوان شديد على الذات، واعتذار ضمني للاخرين عن صورة أبوية أو زوجية او انسانية لم يستطع الحفاظ عليها.. احساس شديد بالذنب وضعف المواجهة ويأس بلغ حده الاقصى، مما دفعه لاستجماع ماتبقى لديه من شجاعة لوقف نزيف الخسارات في استسلام ابدي.
اما الرجل الثاني، فلم يمهله العمر كثيرا ليفكر في طريقة الخلاص من الازمة، تولى جسده تلك المهمة الشاقة، واتخذ قرارا داخليا غير خاضع للمراجعة حين توقف قلبه فجأة استجابة لحالة احباط شديدة، وحزن لم يحتمل آلامه.. رحيل هادئ من دون صخب، واستكانة لروح تعبت من الفقد، ونفس هزمتها الخسارة، ولم تمتلك الثقة الكافية في استرجاع او تعويض ما راح، فأصبحت الحياة لديه مقابل النجاح، والموت مقابل الفشل.
نظرة أخرى
لم يصل الامر في الكويت الى حد الانتحار لكن الخسارة بكل اشكالها موجعة ومحبطة في كل زمان ومكان، وان ظل تأثيرها متباينا من انسان الى اخر، فهناك نوعان من الخاسرين: الاول يتعافى بسرعة من الم الخسارة، ويلملم ذاته المبعثرة ويتخذ من ضعفه المادي حافزا للمضي قدما نحو الثبات والنجاح مرة اخرى، مهما كان المشوار طويلاً او مرهقا، فالنقود بالنسبة له مهمة، لكنها ليست اهم من نفسه واسرته وحياته.. لديه من القناعة اللا شعورية بالنجاح، والقدرة النفسية، والثقة ما يؤهله للوقوف ثانية والتصدي للازمات والمواقف الصعبة، وتحويل الفشل الى نجاح، حتى وان تخلى عنه الاقربون.
اما النوع الثاني، وهو من ادت به الخسارة الى الانتحار او الموت او المرض وتوقفت به الحياة عند تلك اللحظة من دون القدرة على تجاوزها، هو شخص علاقته بذاته مضطربة، وحبه لنفسه مشروط، فهو يحب نفسه ويقدرها ويتقبلها في حال النجاح والثراء فقط، ولا يتحملها في الازمات، فيقرر التخلص منها او يجعلها حبيسة الاضطرابات السلوكية واضطرابات النوم والاكل، ويقدم نفسه فريسة سهلة للقلق والاكتئاب واجترار الألم، تلك المعاملة السلبية مع الذات تنعكس على معاملة الاخرين له، فكيف يطلب المرء من المحيطين به ان يحترموه ويقدروه ويساندوه في ازمته ويحبوه من دون شروط وفي كل الاحوال، وهو يفتقد الى كل هذه الاشياء في تعامله مع نفسه؟!
ان الوازع الروحي الصادق والقوي، وتقبل الذات كما هي في النجاح والفشل، والقوة والضعف، تجعلنا نتعامل بثقة مع الحياة، وتجبر الاخرين على التعامل معنا من المنطلق نفسه، ويتواطأ الكون معنا ليحقق لنا احلامنا وطموحاتنا التي تحتمل دوما الربح والخسارة، فغالبا ما يكون الإخفاق اساس النجاح والشدائد تصنع الرجال، وليس مهما ان تخسر العالم كله، بل المهم ألا تخسر نفسك.