عمليات التورق حرام ام حلال ؟

اخطبوط

عضو نشط
التسجيل
22 سبتمبر 2004
المشاركات
63
موقف السلف من التورق المنظم

د. سامي بن إبراهيم السويلم 3/11/1426
05/12/2005
منقول من الإسلام اليوم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فقد انتشر التمويل من خلال التورق المنظم في السنوات الأخيرة بصورة غير مسبوقة، واستفحلت بسببه مديونية الأفراد، وترافق ذلك مع تدهور توزيع الدخل وارتفاع تركيز الثروة بدرجة ملحوظة.
وقد نتج عن انتشار هذا التمويل لدى المصارف الإسلامية تساؤلات جوهرية حول حقيقة التمويل الإسلامي والرسالة التي وجدت المصارف الإسلامية أصلاً من أجلها. فبينما كان دعم التنمية والإسهام في النشاط الحقيقي للاقتصاد على رأس قائمة أهداف المصارف الإسلامية، من خلال المشاركة والاستصناع والإجارة ونحوها من المبادلات الحقيقية، تراجعت هذه الأهداف بعد بروز التورق المنظم، وحل محلها أهداف ”أكثر واقعية“، تقتصر على تحقيق الربح من خلال تقديم النقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة، مع توسيط سلع لا أثر لها في النشاط الحقيقي أو في توليد قيمة مضافة للاقتصاد.
وهكذا صار التورق المنظم سبباً في التراجع عن أهم أهداف المصارف الإسلامية، وسبباً لتشكيك الكثيرين، من المسلمين وغير المسلمين، في جدوى التمويل الإسلامي أصلاً، وما إذا كانت هناك فروق فعلية بينه وبين التمويل الربوي.
ولذلك لم يكن غريباً وقوع النـزاع بين الفقهاء المعاصرين حول مشروعية هذا النمط من التمويل، وتتابع المناقشات والمداولات بشأنه عبر سلسلة من الندوات والمؤتمرات، كان خاتمتها اجتماع مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، والذي صدر قراره في أواخر ١٤٢٤هـ بمنع التورق المنظم وأنه يأخذ حكم العينة الثنائية.
وقد قدمت العديد من البحوث والدراسات حول الموضوع، بين مؤيد ومعارض. انصب معظمها حول الاستدلال بشتى أنواع الأدلة حول مدى مشروعية هذه الصيغة من عدمه. لكنها تكاد تتفق على أن هذه الصيغة تبدو مستحدثة وغير مطروقة في مصادر الفقه الإسلامي ومدوناته.
لكن تبين أن هذه الصيغة كانت معروفة منذ القرن الأول للهجرة، وأن فتاوى السلف بشأنها كانت صريحة وحاسمة في منعها. ونظراً لغياب هذه الحقيقة عن كثيرين، جاء هذا البحث ليسلط الضوء على هذا الجانب، وليسهم في بناء تصور أكثر موضوعية ومصداقية في هذه المسألة الخلافية.
ولتتضح الصورة للقارئ نمهد بتحديد المصطلحات محل البحث:

مفهوم التورق وأنواعه
التورق أو التورق الفردي: هو الحصول على النقد من خلال شراء سلعة بأجل ثم بيعها نقداً لطرف آخر غير البائع.
التورق المنظم: هو أن يتولى البائع ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري ويسلمه للمتورق.
التورق المصرفي: كثيراً ما يستخدم هذا المصطلح رديفاً للتورق المنظم. لكن يمكن التمييز بينهما بأن التورق المصرفي هو تورق منظم يسبقه مرابحة للآمر بالشراء، حيث الآمر بالشراء هو المتورق. والسبب أن المصارف في الغالب لا تملك سلعاً ابتداء، فإذا رغب العميل في الحصول على النقد من خلال التورق المنظم عبر المصرف، تطلب الأمر شراء المصرف السلعة لأمر المتورق، ثم بيعها عليه بأجل، ثم بيعها نقداً وتسليم النقد للعميل.

فتاوى السلف في التورق المنظم

1. الإمام سعيد بن المسيب (٩٤هـ)
وهو أعلم التابعين، وأفقه الناس في البيوع (1). كان يفتي والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سُئل عن شئ يشكل عليه يقول: (سلوا سعيد بن المسيب فإنه كان يجالس الصالحين)(2).
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعاً عِينة، فاطلبه لي. قال: فقلت فإن عندي طعاماً، [قال:] فبعتُها طعاماً بذهب إلى أجل، واستَوفَتْه. فقالت: انظر لي من يبتاعه مني. قلت: أنا أبيعه لك. قال: فبعتها لها. فوقع في نفسي من ذلك شئ. فسألتُ سعيدَ بن المسيب فقال: (انظر ألا تكون أنت صاحبه؟) قال: قلت فأنا صاحبه. قال: ”فذلك الربا محضاً، فخذ رأسمالك، واردد إليها الفضل“، هذا لفظ عبد الرزاق.
ولفظ ابن أبي شيبة: عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعاً إلى أجل، ثم أمَرَتْه أن يبيعه، فباعه. قال: فسألتُ سعيد بن المسيب فقال: (أبصر ألا يكون هو أنت؟) قلت: أنا هو. قال: (ذلك الربا، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك) (3).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات المهمة:
1. إن هذه المعاملة التي تمت بين داود وأخته كانت من التورق المنظم، لأن داود هو الذي باع السلعة بأجل ثم تولى بيعها نقداً نيابة عن أخته لطرف ثالث. ويدل على أن البيع النقدي كان لطرف ثالث أمور:
• التصريح بأنها (أمَرَتْه أن يبيعه)، وهذا صريح أنه نائب عنها في البيع، لا أنه هو المشتري.
• قوله: (أنا أبيعه لكِ). وهذا معناه أنه يبيع نيابة عنها، لا أنه يشتري منها، وهذا معروف عند السلف، إذا قال: أبيعه لك، أي أبيعه لمصلحتك نيابة عنك (4). ولو كان هو المشتري لقال: أنا أبتاعه منك.
• قولها: (انظر لي من يبتاعه مني)، وهذا يدل على أنها طلبت البحث عن المشتري بعد شرائها من أخيها بأجل، ولو كان المقصود أن يشتريها هو نفسه لما كان هناك حاجة للبحث عن مشتر.
• أن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ذكرا هذا الأثر في باب آخر خلاف أبواب العينة الثنائية (5).
فهذه المعاملة من باب التورق المنظم وليست من العينة الثنائية التي ترجع فيها السلعة للبائع.
2. إن فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله كانت بتحريم هذه المعاملة لأنها ربا، بل وصفها بأنها (الربا محضاً)، وأن داود ليس له من أخته إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، وتبطل الزيادة فوق ذلك.
3. إن فتواه رحمه الله كانت حاسمة وواضحة، وهذا يشعر أن هذه المعاملة لم تكن جديدة على سعيد، بل وقف عليها وعلم حكمها قبل ذلك. وإذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله لقي جمعاً كبيراً من الصحابة، وكان صهر أبي هريرة رضي الله عنه، وكان مقيماً بالمدينة النبوية وفيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فيَبعد والحال كذلك أن تكون هذه الفتوى، بهذا الجزم، محض اجتهاد منه رحمه الله، بل الأقرب أن له فيها سلفا يتصل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
4. أن أخت داود سمّت معاملتها عينة، لأنها قالت: أريد أن تشتري متاعاً عينة، مع أن مقصودها ليس العينة الثنائية وإنما التورق. فدل على أن التورق كان يسمى عينة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سليمان التيمي: (أن إياس بن معاوية كان يرى التورق يعني العينة) (6). ففسر التورق بأنه عينة. وسيأتي إن شاء الله ما يؤكد ذلك عند الفقهاء.
2. الحسن بن يسار البصري (١١٠هـ)
من سادات التابعين علماً وعملاً، وفقيه البصرة ومفتيها. قال أبو قتادة: ما رأيت أحداً أشبه برأي عمر بن الخطاب منه. وقال قتادة: ما جمعتُ علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدتُ له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شئ كتب فيه إلى سعيد بن المسيب (7).
روى عبد الرزاق عن أبي كعب، عبد ربه بن عبيد الأزدي، أنه قال: قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق. فقال الحسن: (لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق).
وروى أيضاً عن رزيق بن أبي سلمى أنه قال: سألت الحسن عن بيع الحرير، فقال: (بع واتق الله). قال: يبيعه لنفسه؟ قال: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً، ولا تكون منه في شئ. ادفع إليه متاعه ودعه) (8).
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات:
1. قوله: إني أبيع الحرير، كان الغالب آنذاك هو استعمال الحرير للحصول على النقد من خلال شرائه بأجل ثم بيعه نقداً، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في العينة: (دراهم بدراهم وبينهما حريرة.) وتسمى العينة أحياناً: (بيع الحريرة) (9)، وسيأتي ما يؤيد ذلك من كلام الفقهاء. ويفهم أن أبا كعب ربما باع بأجل لمن يريدون العينة، ولهذا قال الحسن في الرواية الثانية: (بع واتق الله) أي لكثرة ما يلابس بيع الحرير من الوقوع في العينة بصورها المختلفة.
2. إن جواب الحسن صريح في منع البائع بأجل من أن يتدخل بأي صورة من الصور لتحصيل النقد للمشتري، ولهذا قال: (لا تكون منه فيه شئ ادفع إليه متاعه ودعه.) وهذا يقتضي منع توسط البائع بأجل لمن يريد النقد حتى لو كان بمجرد الدلالة على من يشتريه نقداً، وهذا صريح في منعه للتورق المنظم.
3. وقول الحسن رحمه الله: (لا تبعه) أي لا تبع الحرير نيابة عمن اشتراه منك بأجل، وهذا منع للتورق المنظم. وقوله: (ولا تشتره) أي لا تشتره منه، وهذا منع للعينة الثنائية. وقوله: (ولا ترشده) أي لا تدله على من يشتريه منه نقداً. وقال في الرواية الأخرى: (إذا بعته فلا تدل عليه أحداً) يعني والله أعلم إذا بعت الحرير واشتراه منك المتورق فلا تدل عليه من يشتري منه بنقد. فمجموع الروايتين منعٌ للدلالة من الجهتين. وعلى كل تقدير فهو نهي عن التدخل في عملية التورق، ولهذا قال: (ادفع إليه متاعه ودعه).
4. إن هذا التدخل ممنوع وإن كان المشتري لا يحسن التعامل في السوق، لقوله: (فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق) ، ومع ذلك نهاه الحسن رحمه الله عن التدخل، لعلمه أن مراد هؤلاء النقد. ولو كان هذا المراد حلالاً طيباً لكانت الإعانة عليه مشروعة مطلوبة. فلما كانت الإعانة على تحصيل النقد بهذا الطريق ممنوعة، علم أن هذا الغرض محل شبهة على أقل تقدير.
3. الإمام مالك بن أنس (١7٩هـ)
إمام دار الهجرة، وعالم المدينة الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم، فلم يجد الناس أعلم منه، كما ورد في الحديث النبوي (10).
قال ابن القاسم: (سألتُ مالكاً عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. فقال مالك: لا خير فيه، ونهى عنه) (11).

ويلاحظ من هذا النص:
1. أن المعاملة التي سَأل ابنُ القاسم عنها مالكاً هي عماد التورق المنظم، لأن المشتري بأجل يطلب من البائع أن يبيع السلعة نقداً نيابة عنه لرجل آخر. فقوله: (فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد)، أي قال المشتري للبائع: بعها لي، أي بعها نيابة عني، كما سبق. وقوله: (من رجل) أي غير البائع نفسه كما هو ظاهر.
2. إن الإمام مالكا منع هذا التعامل بقوله: (لا خير فيه) وبنهيه عنه أيضاً. ونحوه ما جاء في النوادر والزيادات: (قال مالك: ولا يلي بيعها لمبتاعها منه يسأله ذلك. قال أشهب: لا خير فيه.) (12).
وهذا يوافق فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله في هذه المسألة. ولا غرابة في ذلك، فالإمام مالك وارث علم أهل المدينة قبله، ومن أبرزهم سعيد بن المسيب.
3. وقول المشتري: (إني لا أبصر البيع) هو نفس التعليل الذي سُئل عنه الحسن البصري رحمه الله. ومع ذلك فإن الإجابة كانت حاسمة بالمنع. وهذا يؤكد أنه لو كان مقصود المشتري من تحصيل النقد بهذا الأسلوب أمراً مشروعاً ومحموداً، لكانت إعانته عليه محمودة كذلك، فلما كانت الإعانة مذمومة، علم أن هذا الأسلوب غير محمود أصلاً.
4. وقول الإمام مالك هذا رحمه الله يوافق ما ورد عنه من مسائل التورق التي ذكرها عنه أصحابه، وتتفق جميعها على أن أي تدخل للبائع لتسهيل التورق للمتورق يجعل المعاملة محرمة (13).

4. الإمام محمد بن الحسن الشيباني (١٨٩هـ)
الفقيه المجتهد المحدّث، صاحب أبي حنيفة ومن أئمة المذهب الحنفي.
وقد جاء عنه أكثر من نص:
(أ) جاء في كتاب الأصل: (ولو باعه لرجل، لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد، لنفسه ولا لغيره. ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك، لنفسه ولا لغيره، لأنه هو البائع) (14).


يتبع
 

اخطبوط

عضو نشط
التسجيل
22 سبتمبر 2004
المشاركات
63
الجزء الثانى من التورق حلال ام حرام ؟

1. ذكر محمد بن الحسن رحمه الله هذا النص بعد أن ذكر صورة العينة الثنائية، وهي أن يبيع الشخص السلعة بثمن مؤخر ثم يشتريها بثمن حاضر، ويسميها فقهاء الحنفية: (شراء ما باع بأقل مما باع قبل انتقاد الثمن)، وبيّن أن هذا الشراء مردود. ثم بعد أن تعرض لبعض التفاصيل انتقل إلى المسألة التي نحن بصددها، وهي ما إذا كان الشراء أصالة أو وكالة.
2. قوله: (ولو باعه لرجل)، سبق أن عبارة (باع له) تعني باع لمصلحته ونيابة عنه. فقوله: ولو باعه لرجل، أي باع المبيع لمصلحة رجل آخر، فالذي يباشر البيع هنا وكيل ونائب عن مالك المبيع. ثم قال: (لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد.) أي لم يكن ينبغي للمالك الأصيل أن يشتري المبيع بأقل. فيكون معنى العبارة: لو وكل مالك السلعة من يبيعها نيابة عنه، فلا يجوز للأصيل أن يشتري السلعة بأقل قبل انتقاد ثمن الشراء. وقوله: (لنفسه ولا لغيره) أي لا ينبغي له أن يشتري سواء كان الشراء لنفسه أو لغيره. وواضح من ذلك أنه لا يلزم أن ترجع السلعة للمالك الأصلي، ومع ذلك حكم الإمام محمد بمنع هذا الشراء.
3. ثم قال: (ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك لنفسه ولا لغيره، لأنه هو البائع.) وقوله (الذي باعه) يريد الوكيل الذي باشر البيع نيابة عن المالك الأصلي. فيكون معنى العبارة: لا يجوز للوكيل الذي باشر البيع أن يشتري المبيع بأقل من الثمن الذي باع به قبل أن ينقد المشتري الثمن. وقوله: (لنفسه ولا لغيره) أي لا يصح الشراء، سواء كان الشراء لمصلحة الوكيل نفسه أو لمصلحة غيره. وواضح مرة أخرى أن المنع لا يشترط فيه أن تكون السلعة قد عادت للمالك الأصلي، بل قد تباع لطرف ثالث، وبذلك تكون المعاملة من صور التورق وليس العينة الثنائية، وهو تأكيد لمفهوم العبارة السابقة. وسيأتي من كلام فقهاء الحنفية ما يؤكد هذه النتيجة.
4. إن هذا الحكم ليس رأياً خاصاً بالإمام محمد وحده، بل هو رأي أئمة المذهب: أبي حنيفة (150هـ)، والقاضي أبي يوسف (182هـ)، بالإضافة لمحمد بن الحسن، رحمة الله عليهم جميعاً. ولهذا كان كتاب الأصل من كتب ظاهر الرواية، أي الكتب المعتمدة في المذهب الحنفي. ولهذا السبب وجدنا هذا الحكم منصوصاً عليه في كتب الفقهاء ممن بعدهم.
ففي تبيين الحقائق للزيلعي، بعد أن ذكر المنع من شراء ما باع بأقل مما باع، قال: (وكذا لو وكّل رجلاً ببيع عبده بألف درهم، فباعه، ثم أراد الوكيل أن يشتري العبد بأقل مما باع، لنفسه أو لغيره بأمره، قبل نقد الثمن، لم يجز.) (15) ويزيد ابن عابدين في حاشيته هذا المعنى تأكيداً فيقول: (فأفاد أنه لو باع شيئاً أصالة بنفسه أو وكيله أو وكالة عن غيره، ليس له شراؤه بالأقل لا لنفسه ولا لغيره.)(16).
5. وهذه العبارات من فقهاء المذهب عبر القرون صريحة في منع هذا التعامل أصالة أو وكالة، في أي من العقدين: البيع أو الشراء. وتعليلهم لهذا المنع يعكس حرصهم على سد الباب من أصله. فيعلل الزيلعي المنع من شراء الوكيل لنفسه بقوله: (أما شراؤه لنفسه فلأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه، والثابت من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات.) ثم يعلل المنع من الشراء لغيره بقوله: (وأما لغيره فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فكان هذا شراء ما باع لنفسه من وجه.) وذكر ابن عابدين تعليل الزيلعي وأقره.
6. إن هذه النصوص تؤكد أن من باع سلعة بثمن مؤخر،لم يجز له أن يشتري هذه السلعة لا لنفسه ولا لغيره، حتى لو كان في البيع الأول وكيلاً يعمل لمصلحة غيره، حتى لو لم ترجع السلعة لمالكها الأول. وهذا إغلاق محكم لكل أنواع الوساطة في هذا الباب، حتى لو كانت المعاملة من باب التورق وليس العينة الثنائية.
(ب) النص الآخر جاء في كتاب الجامع الصغير: (رجل كَفَل عن رجل بأمره، فأمَرَه أن يتعيّن عليه حريراً. فالشرى للكفيل والربح الذي ربحه البائع عليه) (17).
وفي هذا النص وقفات:
1. قال الشراح: قوله (يتعيّن)، أي يتعامل بالعينة، كما هو المعنى اللغوي. ومعنى العينة عند فقهاء الحنفية: هي أن يطلب الرجل من التاجر قرضاً، فيأبى أن يعطيه التاجر إلا بربح، ويخاف الوقوع في الربا. فيبيعه سلعة قيمتها نقداً مثلاً عشرة بخمسة عشر مؤجلة، فيبيعها المحتاج للنقد في السوق بعشرة، فيحصل له عشرة نقداً وفي ذمته خمسة عشر للبائع. قالوا: وهي مذمومة شرعاً، وجاء فيها الحديث: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينـزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) (18).
2. يلاحظ أن الحنفية عرّفوا العينة بما يشمل مفهوم التورق، وهذا يؤكد ما سبق عن السلف من أن التورق يندرج ضمن العينة. وليس هذا خاصاً بفقهاء الحنفية، بل يوافقهم فيه المالكية، ونص عليه الإمام أحمد (19).
كما يلاحظ أن قوله ”أمره أن يتعيّن عليه“ يشبه قول أخت داود بن أبي عاصم في أثر سعيد بن المسيب السابق حين قالت: (أريد أن تشتري متاعاً عينة)، فكلاهما أمرٌ بالعينة.
3. مضمون هذه الصيغة أن الآمر محتاج للنقد، فيطلب من المأمور أن يشتري حريراً لمصلحة الآمر بثمن مؤجل، ثم يبيع المأمور الحرير بنقد، أقل من الثمن الآجل بطبيعة الحال، ويسلم النقد للآمر أو يوفي به الدين الذي كفله عنه. والأصل في هذه الحالة أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالثمن الآجل، لأن الأخير هو المشتري للسلعة أصالة.
لكن محمد بن الحسن يرى أن المأمور ليس له أن يطالب الآمر بالثمن الآجل، ولهذا قال: (فالشرى للكفيل، والربح الذي ربحه البائع عليه). أي أن الثمن الآجل يثبت في ذمة المأمور أمام البائع، ولا يثبت في ذمة الآمر أمام المأمور، لأن الشراء لا يكون للآمر، بل للمأمور. وعليه فإن المأمور لا يطالب الآمر إلا بمقدار النقد الذي سلمه إياه أو وفّى به عنه، دون أي زيادة.
وهذا يقتضي تحريم هذه الزيادة، لأن الأصل أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالثمن الآجل كاملاً، إذ الشراء في الأصل للآمر لأنه هو المحتاج للنقد. فإذا بطل كون الشراء له، امتنع أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالزيادة عن النقد الذي سلمه إياه. وهذا يستلزم تحريم إثبات الزيادة في ذمة الآمر، ولولا ذلك لما حكم ببطلانها.
وهذا مطابق لفتوى سعيد بن المسيب حين أمر داود بن أبي عاصم أن يرد الزيادة لأخته ولا يأخذ إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، كما سبق. فأقوال محمد بن الحسن وسعيد بن المسيب متفقة على أن الزيادة على الثمن النقدي باطلة ولا تثبت في ذمة الآمر بالعينة.
4. وهذا الحكم ليس رأي محمد بن الحسن وحده، بل هو قول أئمة المذهب، لأن كتاب الجامع الصغير من كتب ظاهر الرواية المعتمدة في المذهب الحنفي. ومع اتفاق فقهاء المذهب على هذا الحكم إلا أنهم اجتهدوا في تعليله. فعلله بعضهم بأنه ضمان من الآمر لما يخسره المأمور بالفرق بين الثمن الآجل والثمن النقدي، قالوا: وضمان الخسران باطل. وعلله بعضهم بأنه توكيل مع جهالة مقدار السلعة والثمن، فهي وكالة باطلة. لكنهم متفقون على أن المأمور به هو العينة المذمومة، وعلى أن الزيادة لا تثبت في ذمة الآمر. ولا حاجة للتعليل بعد ذلك بأكثر من أن هذه المعاملة من العينة المنهي عنها بنص الحديث، فلا تثبت الزيادة في حق الآمر لأنها ربا، ويتحملها المأمور لأنه هو الذي باشر الشراء. وإذا علم المأمور أنه لا يحق له مطالبة الآمر بالزيادة فإن سيمتنع من هذا التعامل أساساً.
5. وموقف محمد بن الحسن هذا يؤكده عبارته المشهورة في العينة: (هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، ذميمٌ، اخترعه أكلة الربا) (20). وهذا الذم لا يقتصر على العينة الثنائية، كما تأوله البعض، بل يشمل الوساطة بالتورق كما سبق صريحاً.


يتبع
 

اخطبوط

عضو نشط
التسجيل
22 سبتمبر 2004
المشاركات
63
الجزء الثالث التورق حرام ام حلال ؟

تابع 3
ملاحظات عامة
1. إن اتفاق هؤلاء العلماء على منع هذه المعاملة، مع تباين مناهجهم، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، وتعدد مدارسهم، ما بين المدينة إلى البصرة إلى الكوفة، يشير إلى أن منعها يستند إلى أصل صحيح يتفقون عليه جميعاً، ألا وهو منع العينة وذمها، إذ يقتضي هذا سد الباب أمام اتخاذ البيع ذريعة للحصول على النقد الحاضر بدين في الذمة أكثر منه.
وسبق أن الوكالة بالتورق إعانة ومساعدة للمحتاج للنقد، فإذا كانت ممنوعة دل ذلك على أن تحصيل النقد بهذا الطريق من العينة المذمومة شرعاً.
2. إن الفتاوى السابقة تمنع توسط البائع لتحصيل النقد حتى بدون تواطؤ أو اتفاق مسبق بين المتورق وبين البائع، كما يظهر من سياق النصوص المنقولة عنهم. وإذا كان هذا ممنوعاً مع غياب التواطؤ، فهو مع وجوده أولى بالمنع. والتورق المنظم بالصورة التي يطبق بها اليوم يظهر فيها التواطؤ ظهوراً لا مزيد عليه، فالقول بمنعه إذن آكد وأوجب.
3. إن قرار مجمع الفقه الإسلامي بمنع التورق المنظم، مع عدم اطلاع أعضائه فيما يبدو على أقوال السلف في هذا الخصوص، يشهد على كمال هذه الشريعة الغراء وربانيتها وعصمتها، فالكل يصدر عن مشكاة واحدة تعصم من تمسك بها عن الانحراف، وتهديه إلى المحجة البيضاء التي سار عليها السلف الصالح، مهما باعدت بينهم القرون وتطاولت بهم الأزمان.
4. وكون هذه المعاملة معروفة منذ القرن الأول الهجري، وكانت مواقف السلف منها بهذا الحسم والوضوح، دليل على أن مسيرة التمويل الإسلامي اليوم بحاجة لمراجعة جادة. فانتشار التورق المنظم والمصرفي تراجع وتقهقر للتمويل الإسلامي من جهتين: الأولى أن هذه الصيغة ممنوعة منذ القدم، وبدلاً من إيجاد صيغ وأدوات مشروعة، تتجه المؤسسات الإسلامية إلى الصيغ المشبوهة والممنوعة. الثانية أنها صيغة قديمة ليس فيها جديد، حتى لو غضضنا الطرف عن مدى مشروعيتها. إن منهج تصميم الأدوات والصيغ المالية السائد بحاجة حقيقية إلى إعادة نظر، والبحث عن منهجية أكثر إبداعاً، وفي الوقت نفسه أبعد عن الشبهات.
والله تعالى المسؤول أن يهدينا إلى الحق فيما اختلف فيه بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.


--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، ٦/٦١٤؛ القواعد النورانية، دار ابن الجوزي، ص١٧٣.
[2] الطبقات لابن سعد، دار بيروت، ٥/١٤١.
[3] المصنف لعبد الرزاق، المكتب الإسلامي، ٨/٢٩٤-٢٩٥؛ المصنف لابن أبي شيبة، الدار السلفية، ٧/٢٧٥-٢٧٦. وإسناده صحيح إلى سعيد بن المسيب. ووقع عند عبد الرزاق ”عبد الملك بن أبي عاصم“ بدل ”داود“، والترجيح من ابن أبي شيبة. ( وأشكر فضيلة الشيخ د. عبد الله بن وكيل الشيخ -حفظه الله- على مراجعته لإسناد الحديث).
[4] انظر مثلاً: المدونة، ط. السعادة، ٤/٢٤٤-٢٤٨؛ المنتقى شرح الموطأ للباجي، ٥/٨٠.
[5] فقد ذكر عبد الرزاق العينة الثنائية في باب: الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد، ٨/١٨٤، بينما ذكر أثر سعيد في باب: الرجل يعيّن الرجل هل يشتريها منه أو يبيعها لنفسه. أما ابن أبي شيبة فقد ذكر العينة الثنائية في باب: الرجل يبيع السلعة بالنقد ثم يشتريها، ٦/٥٩٣، كما ذكر العينة في ٦/٤٧، ٥٧٣، بينما ذكر أثر سعيد في باب: الرجل يبيع الدين إلى أجل.
[6] المصنف ٦/٤٧.
[7] سير أعلام النبلاء ٤/٥٧٧، ٥٧٣.
[8] المصنف ٨/٢٩٥. والرواية الأولى إسنادها صحيح. والرواية الثانية فيها ”رزيق بن أبي سلمى“، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/505 وسكت عليه. وجاء في الأصل في الرواية الثانية: ”إذا ابتعته“، والتصحيح من حاشية التحقيق.
[9] انظر المصنف لابن أبي شيبة ٦/٤٨، بيان الدليل لابن تيمية، المكتب الإسلامي، ص٧٣.
[10] سير أعلام النبلاء ٨/٥٥-٥٦.
[11] المدونة ٤/١٢٥، بحث ”التورق كما تجريه المصارف“ د. عبد الله السعيدي، ص١٨.
[12] النوادر والزيادات 6/94، وانظر الذخيرة 5/15.
[13] راجع بحث الكاتب:”التورق والتورق المنظم“ : دراسة تأصيلية، ص١٠-١٤.
[14] كتاب الأصل، عالم الكتب، 5/192. وهناك زيادة أضافها المحقق للنص للإيضاح، حذفت هنا.
[15] تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق، ط بولاق، 4/54.
[16] رد المحتار، ط بولاق، 4/114.
[17] الجامع الصغير، ط. عالم الكتب، ص(٣٧٣) ، ( وأشكر فضيلة الشيخ د. علي الندوي -حفظه الله- لمراجعته الموضوع).
[18] انظر: طلبة الطلبة، دار النفائس، ص٢٤٢؛ تبيين الحقائق،4/163؛ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، دار الكتب العلمية، 3/194. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود، انظر السلسلة الصحيحة رقم (١١).
[19] انظر بحث ”التورق والتورق المنظم“، ص١٩.
[20] فتح القدير، دار إحياء التراث، ٦/٢٢٤
منقول
وليعذرنا اخونى باداره المنتدى على الاطاله لانه بحث يستحق القراءة وقد نقلته لتعم الفائده
 
أعلى