كذلك أية اخرى نزلت في الصديق :
لعل مطالعة سير الأولين, والوقوف على مناقبهم تعين المسلم المعاصر على تحقيق العبودية لله في تعامله مع المال, فعلا وتركا, إقداما وإحجاما, وأكتفي بايراد قصة واحدة ـ لضيق المقام ومحدودية المساحة المتاحة ـ, ففي حادثة الإفك ـ وخبرها في الصحيحين وغيرهما ـ كان ممن خاض فيه مسطح بن أثاثة, وهو ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وكان من المهاجرين البدريين المساكين, وكان أبو بكر رضي الله ينفق عليه لمسكنته وقرابته, فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال, حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا فجاء مسطح فأعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول, فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل, فنزلت الآية وهي قوله تعالى:{ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}[النور:22], وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة, فنزلت الآية فيهم جميعا.
يقول الإمام القرطبي بعد أن ساق القصة الواردة آنفا, وذكر القولين السالفين, والأول أصح غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.
ونص كلام أبي بكر رضي الله عنه ـ كما في الصحيحين من حديث عائشة ـ ".. والله لا أنفق عليه شيئا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة إلى ألا تحبون أن يغفر الله لكم, قال أبو بكر والله إني لأحب أن يغفر لي فرجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه".
فأنت ترى في هذه القصة كيف أن الصديق رضي الله عنه تحرر من أهواء نفسه, وارتفع على الطباع البشرية, وإستجاب للدعوة الربانية (ألا تحبون أن يغفر الله لكم), وكيف لا يحب الصديق ـ وهو من هو ـ أن يغفر الله له؟ ويا ليت بعض الإسلاميين ممن أوقعت فتنة المال بينهم الحقد والحسد والتراشق بالاتهامات, فأذهبت المودة والمحبة من بينهم يرتفعوا إلى هذا المستوى, ويقاربوا الصديق في كريم أخلاقه, ونبيل مواقفه؟