الدكتور نايف العجمي
عضو نشط
- التسجيل
- 26 أكتوبر 2006
- المشاركات
- 75
لدي هدف شريف في الحياة، أحمد الله الذي وفقني إليه، هذا الهدف يتمثل في العمل على إعمار قلوب العالمين بحب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، ليجدوا حلاوة الإيمان، فأنت أيها الموفق كلما عظمت محبتك للمقام المصطفوي ازداد إيمانك وقوي يقينك، ووجدت سعادة وأنسا وانشراحا لا يوزن والله بقناطير الذهب والفضة.
ولعلي أبدأ حديثي إليكم بذكر صورة حزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لنقف على آلامه وأحزانه التي تجاوزها في سبيل تبليغ رسالة ربه، ولعلي أختزل هذه الصورة بصورة فقد الأحباب، وكيف تجلد لذلك، وصبر صبرا يعجز عنه الصبر، عليه صلاة الله وعليه سلام الله، فأقول وبالله التوفيق،،
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إذا ذكر الصبر على فراق الأحباب والتجلد عند فقد الأصحاب ذكر حبيب القلوب وداؤها وشفاؤها، محمد بن عبدالله عليه صلاة الله وعليه سلام الله.
فقد توالت عليه المحن والبلايا والمصائب والرزايا فلم تزده إلا صبرا وثباتا، فأعظم بصبر المصطفى عند ضره
تلمس في الآفاق شرقا ومغربا فلن ترى في أنحائها من يماثله
ذاق مرارة اليتم ولوعة الحزن، وتجرع الوجد غصة غصة، وتوجع من ألم الفراق وبعد الشقة، فصبر واحتسب
للصبر باب في الأنام ولم تزل يمناه مفتاحا لذاك الباب
صبر على فقد الوالدين والأولاد والأصفياء، والأقارب والأصحاب والأخلاء، تحمل ما لم يتحمله بشر، وقابل ذلك بصبر أعمق من الصبر، فكان عليه الصلاة والسلام إمام الصابرين
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خرج عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا ولم يجد حنان الأبوة ودفأها، فقد مات أبوه بعد ولادته بشهرين على قول أكثر أهل السير، فقد خرج أبوه في تجارة إلى الشام وترك زوجته آمنة وما درى أنها علقت بالنسمة المباركة، وما إن فرغ حتى عاد، وفي أوبته عرج على أخوال أبيه عبدالمطلب وهم بنو النجار، فاتفق أن مرض عندهم، فلم يلبث طويلا حتى مات، فدفن بالمدينة في دارالنابغة من بني النجار، فأثار النبأ الموجع الأحزان في قلب الأب المفجوع في أحب أولاده إليه وأقربهم إلى قلبه، وأثار الأسى والحرقة في نفس الزوجة التي كانت تحلم بأوبته، فمات الزوج الشاب الذي لم يتجاز الثامنة عشرة من عمره.
فأبصر النبي النور بمكة ولم يبصر أباه، فولد يتيما، ولا يعرف ألم اليتم ولوعته إلا من جربه، ولا أظن دمعة أحر من دمعة اليتيم إذ غبن وقهر ولم يكن له سند يحميه ولا ركن يأوي إليه.
وبعد حين، ولما كان النبي في السادسة من عمره فجع بأمه وقد تعلق بها قلبه، فقد خرجت به أمه إلى المدينة لزيارة أخواله، إلى حيث مأوى أبيه، فحركت الزيارة عوالج الشوق والأحزان في قلب الابن الذي لم ير أباه ولا رسم قبره، وانطبع معنى اليتم في نفسه بعد أن كان لاهيا عنه، فلما وصل إلى المدينة أقام بها هو وأمه وأم أيمن، أقاموا في بني النجار، ومكثوا عندهم شهرا، وبعد أن قضوا حاجات النفس عادوا إلى مكة، وفي الطريق بين مكة والمدينة مرضت الأم وحم القضاء ودفنت بالأبواء.
نزعت أمه منه وكأنما نزعت روحه، فوجد أحرق الوجد وبكى أحر البكاء، أحس أنه ضاع في الوجود لأن الوجود كان أمه، وهكذا الطفل إذا فقد أمه يرتسم على وجهه التعجب وكأنه يسأل نفسه: إذا لم تكن أمي هنا فلماذا أنا هنا؟
جلس يذرفع الدمع سخينا على فراق أمه التي كان يجد في كنفها الحب والحنان والسلوى والعزاء عن فقد الأب، أبت روحه اليتيمه إلا أن ترسم بالدموع على وجهه معنى اليتم، وقد كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم، وجد في نفسه جمرة لا تطفؤها إلا عبرة
لا بد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد
حاله كحال من جعلت أفكاره تنحدر من رأسه إلى حلقه فيختنق بها ثم لا ينفس عنه إلا الدمع، ومنذ الساعة لمس خشونة الدنيا بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة، لأن فيه قلب الأم وروحها، ولبس المسكنة لأن له شيئا عزيزا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه.
وهكذا شاء الله أن يذوق النبي مرارة فقد الأبوين ولم يجاوز السادسة من عمره.
وبقيت آلام الفقد واليتم تلاحقه، كل شيء يذكره بأمه، كانت ذكريات أمه تلوح في سماء ذاكرته، كان لا يفتأ يتذكر تلك الزؤورة إلى المدينة مع أمه حينما كان صغيرا.
نظر إلى دار بني النجار بعد الهجرة فقال: هنا نزلت أمي، وفي هذه الدار قبر أبي وأحسنت العوم في بئر بني عدي.
وكلما زار قبرها بكى وأبكى من حوله، إذا رأى قبرها ابتدرت عيناه تنظران بالدموع لا بالنظر ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال زار رسول الله قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت".
وبعد فراق أمه كفله جده عبدالمطلب ورعاه، ورق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يفارقه، وكان يجلسه على فراشه، وما كان يجلس عليه أحدا من أولاده، فتلعق النبي بجده، بل كان يرى الدنيا كلها في جده، حتى كاد ينسيه ألم اليتم ومرارة فقد الأم.
وبعد عامين من وفاة أمه، ولم يكن يبلغ بعد الثامنة من عمره، فجعه الموت بأحب الناس إلى قلبه ، فجعه بجده عبدالمطلب، فحزن لذلك وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فذاق مرارة اليتم مرة ثانية.
وقد أحسن إليه جده حين عهد به إلى أبي طالب عمه ، فأحبه أبو طالب حبا شديدا، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ولازمه عليه الصلاة والسلام ولم يفارقه.
كان عمه أبو طالب ذا عيال ولم تكن حاله ميسورة، فساعده عليه الصلاة والسلام لتحمل عبء شظف العيش، فرعى الغنم لأهل مكة مقابل قراريط، وألف العمل منذ طفولته ونعومة أظفاره.
وبعد سنين متطاولة فجع بعمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويغضب له، ويتجرع الحصار والآلام نصرة له، فقده حين اشتد أذى قومه له وجرعوه العلقم ونثروا التراب على رأسه وأخذوا بتلابيبه حتى سقط على ركبتيه، فقد من كان يحميه، فقد من قاطع قومه من أجله، فقد من قال له حين تمالأت عليه قريش بأسرها: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، والله لا أسلمك لشيء أبدا.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ويضاعف حزنه بفقد عمه أنه مات على الكفر، قعد عند رأسه حين حضرته الوفاة يقول: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فمات ولم يقلها، فقال عليه الصلاة والسلام بقلب حزين منكسر أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.
وفي نفس العام وبعد وفاة عمه بأيام خطف الموت زوجته ورفيق دربه التي ملأت حياته فرحا وسرورا وراحة وحبورا، بقيت معه ربع قرن، تحترم قبل الرسالة تامله وعزلته وشمائله، وتحتمل بعد الرسالة كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة.
أخذ الموت تلك المرأة العاقلة الرشيدة التي كانت تؤيده وتثبته، صديقة النساء، كانت نسمة سلام وبر، رطبتت جبينه المتصبب من آثار الوحي وقالت له حين رجع من حراء ترجف بوادره وقد خشي على نفسه: كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
عاجل الموت تلك الزوجة الوفية التي واسته بنفسها ومالها، وقد ذكر ذلك لها حينما قالت عائشة عنها قد أبدلك الله خيرا منها تعني نفسها فقال: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني ولد غيرها".
حمالة الحب لا حمالة الحطب أعني خديجة ذات العز والشرف
أتى جبريل إلى النبي فرأى خديجة مقبلة فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها عليه ولم تتعبه يوما من الدهر فقالت: إن الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
حزن عليها النبي حزنا شديدا يفتت الأكباد
ونزل بنفسه إلى قبرها، وكان أول قبر ينزل إليه ليدفنها بيديه.
من فرط حبه لها ظل بعد موتها يذكرها، ماتت لكن حبها لم يمت في قلبه، فقد بقي يديم ذكرها حتى آخر لحظة في حياته.
توالت هذه الأحزان على رسول الله في عام واحد، عرف ذلك العام -وهو العاشر من البعثة عند اهل السير- بعام الحزن، جمعت له فيه مصيبتان عظيمتان لكنه لم يفقد صبره.
فجاء عمك حصنا تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم
ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رئيت في ثوب جبار ومنتقم
حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلا الجزور بكف المشرك القزم
أما خديجة من أعطتك بهجتها وألبستك ثياب العطف والكرم
غدت إلى جنة الباري ورحمته وأسلمتك لجرح غير ملتئم
من شواهد صبره على أسى الوجد ومرارة الفقد صبره على فقد فلذات كبده، فقد مات بنوه كلهم في حياته إلا فاطمة، فما وهن عليه الصلاة والسلام ولا لان، ولكن صبر واحتسب.
فإذا المعالي أصبحت مملوكة أعناقها للصبر فهو المالك
يتلقى الخطوب والشدائد بقلب لا يخضع للنوائب، وعزم تزول الراسيات ولا يزول.
مات ابنه إبراهيم بين يديه وعمره سنتان، وكان ينظر إليه وعيناه تذرفان بالدموع الحارة على خد ابنه الحبيب القريب من القلب وهو يراه يعالج سكرات الموت ويسمع حشرجة احتضاره، وفي ثبات قال: " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإن على فراقك يا إبراهيم لمحزونون".
يخرج لبدر وابنته مريضة إثر حزنها على وفاة ابنها عبدالله وهو في السادسة من عمره، فأمر زوجها عثمان أن يبقى بجانب زوجته يمرضها، واشتد بها المرض، فبينما هو في بدر ماتت رقية ولها من العمر اثنان وعشرون سنة، ماتت ووالدها بعيد عنها، ماتت قبل أن تطمئن على سلامته، ودفنت وسوي التراب على قبرها قبل عودته، فلم يشهد دفنها، ولم يحضر وداعها، فخيم الحزن عليه، لأنه أب قد نزعت منه بضعة من جسده، ولم يدر أصحابه بيثرب، أيهنئانه بنصر الله أم يعزيانه بفقد رقية، لم تصف له الحياة، كان الحزن جزءا من الحياة، صبر على فقد رقية، وخفف عن زوجها وقال لك أجر من شهد بدرا وزوجه بأم كلثوم لينال لقب ذو النورين.
وبعد حين مرضت زينب واشتد مرضها فلم تستطغ الأدوية أن تخفف من مرضها، فماتت وسلمت أمرها لله، فحزن عليها حزنا لا يبلغ الكلم مداه، ووقف صابرا
قال للنساء اللاتي يغسلنها إذا فرغتنن فآذنني.
فلما فرغن ألقى عليهن إزاره وأمر بجعله مما يلي جسدها فقال أشعرنها إياه
وقال ابدأن بميامنها
ثم صلى عليها واحتسبها
وبعد سنيات وافت المنية أختها أم كلثوم فتتابع الحزن عليه ووقف على باب الحجرة التي تغسل فيها يناول الغاسلات الكفن ثوبا ثوبا ثم صلى عليها.
تقول أم عطية:" دخل علينا رسول الله ونحن نغسل ابنته أم كلثوم فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما آذناه ألقى إلينا حقوه وقال أشعرنها إياه".
جلس على قبرها وعيناه تدمعان
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها نفس تذوب وتقطر
من شواهد صبره على حرارة الحزن على فقد الأقارب والأصحاب فاجعة أحد، فقد قتل يوم أحد من قرابته ومن سادة أصحابه وخيار مقربيه سبعون رجلا، فوقف عليهم بعد المعركة فذرفت عيناه وسالت دموعه على لحيته.
امتد حزنه عليهم إلى وفاته، صلى عليهم بعد ثماني سنين مودعا لهم ويقول: أنا شهيد يوم القيامة عليهم، ويذكرهم ويقول: "والله لوددت أني بودرت بحضن الجبل معهم".
وعظم حزنه ووجده على أخيه وعمه سيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله وسيف يمينه، ولم يكن منظر أوجع لقلبه من منظر عمه وهو مطروح ببطن الوادي، وقد مثل به المشركون، بقروا بطنه، وجدعوا أنفه، ولاكوا كبده، وأخرجوا أحشاءه، وقف مفجوعا بما رأى، فقال بقلب يعتصره الألم والأسى: لن أصاب بعد اليوم بمثل مصيبتي فيك، ثم بكى عليه الصلاة والسلام وأبكى من حوله، وقال: لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع وحواصل الطير، ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا.
وأصابه من قتل حمزة عمه ما لو أصاب الشم كن صحاري
ثم دفن في نمرة كانت عليه إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمرت رجلاه بدا رأسه، فذرفت أعين أصحابه عليه.
ومر بدار بني الأشهل فسمع بكاء النساء على قتلاهن فذرفت عيناه أخرى وقال: أما حمزة فلا بواكي له.
يرسل قادته إلى مؤته ليقاتلوا الروم فيقتل القادة الثلاثة في ساعة واحدة، زيد بن حارثة حبه، وجعفر الطيار ابن عمه، وعبدالله بن رواحة، يراهم وينظر إليهم من مسافة مئات الأميال، ويرى أسرتهم من ذهب تدخل الجنة، فيتبسم وهو يبكي.
حزن على جعفر حزنا شديدا، وذرفت عيناه عليه، وجاء أهله بعد ثلاث فقال:" لا تبكوا على أخي بعد اليوم"، ودعا بني جعفر فجاؤوا كالأفراخ فشمهم وقبلهم وحلق رؤوسهم ثم دعا لهم:" اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه"، وقال لأمه لما ذكرت يتمهم وجعلت تحزنه عليهم العيلة عليهم تخافين وأنا وليهم في الدنيا والآخرة".
فهذه شواهد حق وبراهين صدق على صبره على أحزانه وتجاوز آلامه، فقد كان أرسى من الراسيات، كان طودا منيفا في ثباته ورباطة جأشه، وبحرا في سعة صبرة وقوة تحمله.
ذو مبدأ لا تهز الريح منكبه وللرياح هبوب ذات ألوان
اللهم صل وسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ولعلي أبدأ حديثي إليكم بذكر صورة حزينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لنقف على آلامه وأحزانه التي تجاوزها في سبيل تبليغ رسالة ربه، ولعلي أختزل هذه الصورة بصورة فقد الأحباب، وكيف تجلد لذلك، وصبر صبرا يعجز عنه الصبر، عليه صلاة الله وعليه سلام الله، فأقول وبالله التوفيق،،
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إذا ذكر الصبر على فراق الأحباب والتجلد عند فقد الأصحاب ذكر حبيب القلوب وداؤها وشفاؤها، محمد بن عبدالله عليه صلاة الله وعليه سلام الله.
فقد توالت عليه المحن والبلايا والمصائب والرزايا فلم تزده إلا صبرا وثباتا، فأعظم بصبر المصطفى عند ضره
تلمس في الآفاق شرقا ومغربا فلن ترى في أنحائها من يماثله
ذاق مرارة اليتم ولوعة الحزن، وتجرع الوجد غصة غصة، وتوجع من ألم الفراق وبعد الشقة، فصبر واحتسب
للصبر باب في الأنام ولم تزل يمناه مفتاحا لذاك الباب
صبر على فقد الوالدين والأولاد والأصفياء، والأقارب والأصحاب والأخلاء، تحمل ما لم يتحمله بشر، وقابل ذلك بصبر أعمق من الصبر، فكان عليه الصلاة والسلام إمام الصابرين
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خرج عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا ولم يجد حنان الأبوة ودفأها، فقد مات أبوه بعد ولادته بشهرين على قول أكثر أهل السير، فقد خرج أبوه في تجارة إلى الشام وترك زوجته آمنة وما درى أنها علقت بالنسمة المباركة، وما إن فرغ حتى عاد، وفي أوبته عرج على أخوال أبيه عبدالمطلب وهم بنو النجار، فاتفق أن مرض عندهم، فلم يلبث طويلا حتى مات، فدفن بالمدينة في دارالنابغة من بني النجار، فأثار النبأ الموجع الأحزان في قلب الأب المفجوع في أحب أولاده إليه وأقربهم إلى قلبه، وأثار الأسى والحرقة في نفس الزوجة التي كانت تحلم بأوبته، فمات الزوج الشاب الذي لم يتجاز الثامنة عشرة من عمره.
فأبصر النبي النور بمكة ولم يبصر أباه، فولد يتيما، ولا يعرف ألم اليتم ولوعته إلا من جربه، ولا أظن دمعة أحر من دمعة اليتيم إذ غبن وقهر ولم يكن له سند يحميه ولا ركن يأوي إليه.
وبعد حين، ولما كان النبي في السادسة من عمره فجع بأمه وقد تعلق بها قلبه، فقد خرجت به أمه إلى المدينة لزيارة أخواله، إلى حيث مأوى أبيه، فحركت الزيارة عوالج الشوق والأحزان في قلب الابن الذي لم ير أباه ولا رسم قبره، وانطبع معنى اليتم في نفسه بعد أن كان لاهيا عنه، فلما وصل إلى المدينة أقام بها هو وأمه وأم أيمن، أقاموا في بني النجار، ومكثوا عندهم شهرا، وبعد أن قضوا حاجات النفس عادوا إلى مكة، وفي الطريق بين مكة والمدينة مرضت الأم وحم القضاء ودفنت بالأبواء.
نزعت أمه منه وكأنما نزعت روحه، فوجد أحرق الوجد وبكى أحر البكاء، أحس أنه ضاع في الوجود لأن الوجود كان أمه، وهكذا الطفل إذا فقد أمه يرتسم على وجهه التعجب وكأنه يسأل نفسه: إذا لم تكن أمي هنا فلماذا أنا هنا؟
جلس يذرفع الدمع سخينا على فراق أمه التي كان يجد في كنفها الحب والحنان والسلوى والعزاء عن فقد الأب، أبت روحه اليتيمه إلا أن ترسم بالدموع على وجهه معنى اليتم، وقد كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم، وجد في نفسه جمرة لا تطفؤها إلا عبرة
لا بد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد
حاله كحال من جعلت أفكاره تنحدر من رأسه إلى حلقه فيختنق بها ثم لا ينفس عنه إلا الدمع، ومنذ الساعة لمس خشونة الدنيا بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة، لأن فيه قلب الأم وروحها، ولبس المسكنة لأن له شيئا عزيزا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه.
وهكذا شاء الله أن يذوق النبي مرارة فقد الأبوين ولم يجاوز السادسة من عمره.
وبقيت آلام الفقد واليتم تلاحقه، كل شيء يذكره بأمه، كانت ذكريات أمه تلوح في سماء ذاكرته، كان لا يفتأ يتذكر تلك الزؤورة إلى المدينة مع أمه حينما كان صغيرا.
نظر إلى دار بني النجار بعد الهجرة فقال: هنا نزلت أمي، وفي هذه الدار قبر أبي وأحسنت العوم في بئر بني عدي.
وكلما زار قبرها بكى وأبكى من حوله، إذا رأى قبرها ابتدرت عيناه تنظران بالدموع لا بالنظر ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال زار رسول الله قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت".
وبعد فراق أمه كفله جده عبدالمطلب ورعاه، ورق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يفارقه، وكان يجلسه على فراشه، وما كان يجلس عليه أحدا من أولاده، فتلعق النبي بجده، بل كان يرى الدنيا كلها في جده، حتى كاد ينسيه ألم اليتم ومرارة فقد الأم.
وبعد عامين من وفاة أمه، ولم يكن يبلغ بعد الثامنة من عمره، فجعه الموت بأحب الناس إلى قلبه ، فجعه بجده عبدالمطلب، فحزن لذلك وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فذاق مرارة اليتم مرة ثانية.
وقد أحسن إليه جده حين عهد به إلى أبي طالب عمه ، فأحبه أبو طالب حبا شديدا، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ولازمه عليه الصلاة والسلام ولم يفارقه.
كان عمه أبو طالب ذا عيال ولم تكن حاله ميسورة، فساعده عليه الصلاة والسلام لتحمل عبء شظف العيش، فرعى الغنم لأهل مكة مقابل قراريط، وألف العمل منذ طفولته ونعومة أظفاره.
وبعد سنين متطاولة فجع بعمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويغضب له، ويتجرع الحصار والآلام نصرة له، فقده حين اشتد أذى قومه له وجرعوه العلقم ونثروا التراب على رأسه وأخذوا بتلابيبه حتى سقط على ركبتيه، فقد من كان يحميه، فقد من قاطع قومه من أجله، فقد من قال له حين تمالأت عليه قريش بأسرها: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، والله لا أسلمك لشيء أبدا.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ويضاعف حزنه بفقد عمه أنه مات على الكفر، قعد عند رأسه حين حضرته الوفاة يقول: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فمات ولم يقلها، فقال عليه الصلاة والسلام بقلب حزين منكسر أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.
وفي نفس العام وبعد وفاة عمه بأيام خطف الموت زوجته ورفيق دربه التي ملأت حياته فرحا وسرورا وراحة وحبورا، بقيت معه ربع قرن، تحترم قبل الرسالة تامله وعزلته وشمائله، وتحتمل بعد الرسالة كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة.
أخذ الموت تلك المرأة العاقلة الرشيدة التي كانت تؤيده وتثبته، صديقة النساء، كانت نسمة سلام وبر، رطبتت جبينه المتصبب من آثار الوحي وقالت له حين رجع من حراء ترجف بوادره وقد خشي على نفسه: كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
عاجل الموت تلك الزوجة الوفية التي واسته بنفسها ومالها، وقد ذكر ذلك لها حينما قالت عائشة عنها قد أبدلك الله خيرا منها تعني نفسها فقال: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني ولد غيرها".
حمالة الحب لا حمالة الحطب أعني خديجة ذات العز والشرف
أتى جبريل إلى النبي فرأى خديجة مقبلة فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها عليه ولم تتعبه يوما من الدهر فقالت: إن الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
حزن عليها النبي حزنا شديدا يفتت الأكباد
ونزل بنفسه إلى قبرها، وكان أول قبر ينزل إليه ليدفنها بيديه.
من فرط حبه لها ظل بعد موتها يذكرها، ماتت لكن حبها لم يمت في قلبه، فقد بقي يديم ذكرها حتى آخر لحظة في حياته.
توالت هذه الأحزان على رسول الله في عام واحد، عرف ذلك العام -وهو العاشر من البعثة عند اهل السير- بعام الحزن، جمعت له فيه مصيبتان عظيمتان لكنه لم يفقد صبره.
فجاء عمك حصنا تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم
ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رئيت في ثوب جبار ومنتقم
حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلا الجزور بكف المشرك القزم
أما خديجة من أعطتك بهجتها وألبستك ثياب العطف والكرم
غدت إلى جنة الباري ورحمته وأسلمتك لجرح غير ملتئم
من شواهد صبره على أسى الوجد ومرارة الفقد صبره على فقد فلذات كبده، فقد مات بنوه كلهم في حياته إلا فاطمة، فما وهن عليه الصلاة والسلام ولا لان، ولكن صبر واحتسب.
فإذا المعالي أصبحت مملوكة أعناقها للصبر فهو المالك
يتلقى الخطوب والشدائد بقلب لا يخضع للنوائب، وعزم تزول الراسيات ولا يزول.
مات ابنه إبراهيم بين يديه وعمره سنتان، وكان ينظر إليه وعيناه تذرفان بالدموع الحارة على خد ابنه الحبيب القريب من القلب وهو يراه يعالج سكرات الموت ويسمع حشرجة احتضاره، وفي ثبات قال: " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإن على فراقك يا إبراهيم لمحزونون".
يخرج لبدر وابنته مريضة إثر حزنها على وفاة ابنها عبدالله وهو في السادسة من عمره، فأمر زوجها عثمان أن يبقى بجانب زوجته يمرضها، واشتد بها المرض، فبينما هو في بدر ماتت رقية ولها من العمر اثنان وعشرون سنة، ماتت ووالدها بعيد عنها، ماتت قبل أن تطمئن على سلامته، ودفنت وسوي التراب على قبرها قبل عودته، فلم يشهد دفنها، ولم يحضر وداعها، فخيم الحزن عليه، لأنه أب قد نزعت منه بضعة من جسده، ولم يدر أصحابه بيثرب، أيهنئانه بنصر الله أم يعزيانه بفقد رقية، لم تصف له الحياة، كان الحزن جزءا من الحياة، صبر على فقد رقية، وخفف عن زوجها وقال لك أجر من شهد بدرا وزوجه بأم كلثوم لينال لقب ذو النورين.
وبعد حين مرضت زينب واشتد مرضها فلم تستطغ الأدوية أن تخفف من مرضها، فماتت وسلمت أمرها لله، فحزن عليها حزنا لا يبلغ الكلم مداه، ووقف صابرا
قال للنساء اللاتي يغسلنها إذا فرغتنن فآذنني.
فلما فرغن ألقى عليهن إزاره وأمر بجعله مما يلي جسدها فقال أشعرنها إياه
وقال ابدأن بميامنها
ثم صلى عليها واحتسبها
وبعد سنيات وافت المنية أختها أم كلثوم فتتابع الحزن عليه ووقف على باب الحجرة التي تغسل فيها يناول الغاسلات الكفن ثوبا ثوبا ثم صلى عليها.
تقول أم عطية:" دخل علينا رسول الله ونحن نغسل ابنته أم كلثوم فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما آذناه ألقى إلينا حقوه وقال أشعرنها إياه".
جلس على قبرها وعيناه تدمعان
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها نفس تذوب وتقطر
من شواهد صبره على حرارة الحزن على فقد الأقارب والأصحاب فاجعة أحد، فقد قتل يوم أحد من قرابته ومن سادة أصحابه وخيار مقربيه سبعون رجلا، فوقف عليهم بعد المعركة فذرفت عيناه وسالت دموعه على لحيته.
امتد حزنه عليهم إلى وفاته، صلى عليهم بعد ثماني سنين مودعا لهم ويقول: أنا شهيد يوم القيامة عليهم، ويذكرهم ويقول: "والله لوددت أني بودرت بحضن الجبل معهم".
وعظم حزنه ووجده على أخيه وعمه سيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله وسيف يمينه، ولم يكن منظر أوجع لقلبه من منظر عمه وهو مطروح ببطن الوادي، وقد مثل به المشركون، بقروا بطنه، وجدعوا أنفه، ولاكوا كبده، وأخرجوا أحشاءه، وقف مفجوعا بما رأى، فقال بقلب يعتصره الألم والأسى: لن أصاب بعد اليوم بمثل مصيبتي فيك، ثم بكى عليه الصلاة والسلام وأبكى من حوله، وقال: لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع وحواصل الطير، ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا.
وأصابه من قتل حمزة عمه ما لو أصاب الشم كن صحاري
ثم دفن في نمرة كانت عليه إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمرت رجلاه بدا رأسه، فذرفت أعين أصحابه عليه.
ومر بدار بني الأشهل فسمع بكاء النساء على قتلاهن فذرفت عيناه أخرى وقال: أما حمزة فلا بواكي له.
يرسل قادته إلى مؤته ليقاتلوا الروم فيقتل القادة الثلاثة في ساعة واحدة، زيد بن حارثة حبه، وجعفر الطيار ابن عمه، وعبدالله بن رواحة، يراهم وينظر إليهم من مسافة مئات الأميال، ويرى أسرتهم من ذهب تدخل الجنة، فيتبسم وهو يبكي.
حزن على جعفر حزنا شديدا، وذرفت عيناه عليه، وجاء أهله بعد ثلاث فقال:" لا تبكوا على أخي بعد اليوم"، ودعا بني جعفر فجاؤوا كالأفراخ فشمهم وقبلهم وحلق رؤوسهم ثم دعا لهم:" اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه"، وقال لأمه لما ذكرت يتمهم وجعلت تحزنه عليهم العيلة عليهم تخافين وأنا وليهم في الدنيا والآخرة".
فهذه شواهد حق وبراهين صدق على صبره على أحزانه وتجاوز آلامه، فقد كان أرسى من الراسيات، كان طودا منيفا في ثباته ورباطة جأشه، وبحرا في سعة صبرة وقوة تحمله.
ذو مبدأ لا تهز الريح منكبه وللرياح هبوب ذات ألوان
اللهم صل وسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.